>

ورقة تقدير موقف بعنوان: "سورية .. بين جدل الفوضى والتفتيت وخيارات الوحدة"

 

 

إن ما تشهده الساحة السورية اليوم يُعَدُّ انعكاسًا مُتوقَّعًا لمسارٍ انتقاليٍّ مُعقَّد، تتشابك فيه عوامل داخلية وخارجية متضادة، ما أسفر عن بروز مشهد سياسي متوتر ومُحتدم. 

ولعل أحد أبرز ملامح هذا المشهد يتمثَّل في محاولات فلول النظام السابق - التي لا تزال تمتلك امتداداتٍ نافذة وأدوات أمنية مؤثِّرة - العودة مجددًا إلى واجهة المشهد السياسي عبر استغلال حالة الفوضى وفرض واقع أمني مشحون بالقوة والسلاح.

في موازاة ذلك، يُمعِن الكيان الصهيوني في التدخل المباشر بالشأن السوري، مُستغلًّا هشاشة الوضع الداخلي، ومسعىً منه لترسيخ مزيدٍ من التوسع والتموضع الاستراتيجي عبر إنشاء مناطق عازلة واتخاذ مواقع ميدانية، ولا سيما في منطقة الجولان، إذ إن هذا التوغل، الذي يتجاوز انتهاك السيادة ليُلامس مشاريع تفتيت وتقسيم مُمنهَج، يستهدف توليد دويلات طائفية تخدم المصالح الإسرائيلية طويلة الأمد.

على ضوء هذا المشهد المركَّب، يبدو واضحًا أن ما يُعرف بـ"فوضى الساحل" لم يكن سوى انعكاسٍ لحالة تمرد عسكري يقوده النظام السابق، في محاولة يائسة لتفجير ثورة مضادة لم يُكتب لها النجاح. غير أن التداعيات كانت كارثية، إذ أسفرت هذه الاضطرابات عن سقوط عشرات القتلى، غالبيتهم من الأبرياء.

 

القادم أعنف أم محسوم؟

ومع تصاعد هذه الأزمة، تتبدى إشكالية أخرى لا تقل خطورة، تتمثل في الإفراط باستخدام القوة من جانب الإدارة الحالية، الذي بات يُكرِّس منطق العنف الدموي، مما يُفضي إلى مفاقمة الأوضاع وتعقيد فرص تحقيق استقرار حقيقي، ويُخشى أن يتحول هذا الصراع المسلح، الذي بدأ بتمرد أمني، إلى حرب طائفية شاملة، في ظل التباطؤ الملحوظ من جانب النظام في استعادة السيطرة واحتواء التداعيات.

إن القراءة العميقة لهذه التطورات تفرض علينا الإقرار بتشابك العوامل الداخلية – المتمثلة في محاولات فلول النظام السابق استعادة النفوذ – مع التدخلات الخارجية، وعلى رأسها المساعي الإسرائيلية لزعزعة الاستقرار السوري، وبالتالي، فإن فهم هذا التعقيد يُحتم تبني مقاربة تحليلية شاملة تتجاوز التفسيرات الأحادية، وتُسهم في تفكيك التداخلات الجيوسياسية والميدانية التي تُشكِّل جوهر هذه الأزمة المتفاقمة.

لا ريب أن ما جرى في الساحل السوري يُعَدُّ انعكاسًا مأساويًّا لتشابك العوامل الداخلية والخارجية، حيث تجلَّت الأخطاء الجسيمة التي ارتُكِبت خلال إحباط المحاولة الانقلابية الفاشلة في ممارسات الإدارة السورية الانتقالية، التي واجهت هذا التمرد بآليات افتقرت إلى الدقة والاحترافية، ما أدى إلى تداعيات كارثية كان ضحاياها من الأبرياء. 

هذه الأخطاء تفاقمت في ظل انخراط فصائل إسلاموية متشددة، وقيادات من فلول النظام السابق، ممثلة في ضباط بارزين وقادة نافذين ضمن الجيش السوري والأجهزة الأمنية المنحلة، مما أسهم في تعقيد المشهد ورفع منسوب العنف إلى مستويات غير مسبوقة.

 

مكاسب المرحلة الانتقالية

ومع أن القيادة السورية الجديدة قد استشعرت نشوة انتصار مؤقتة إثر إحباط التمرد، فإن هذه النشوة لا ينبغي أن تحول دون إجراء مراجعة نقدية صارمة، تتسم بالشمولية والموضوعية، من أجل استخلاص العِبَر والدروس التي تُمكِّن من تصويب المسار وتفادي تكرار مثل هذه الانزلاقات مستقبلًا، فالمحافظة على مكاسب المرحلة الانتقالية تستوجب اعتماد منهجية تحليلية متقدمة تُعيد تقييم الأداء السياسي والعسكري، وتُفضي إلى بلورة استراتيجيات أكثر نضجًا وحكمة وفاعلية.

وفي هذا السياق، ينبغي التنويه إلى أن تحميل الطائفة العلوية مسؤولية ممارسات النظام المخلوع يُعدّ تجنيًا غير مُبرَّر، إذ أن ذلك النظام لم يكن يمثل مكونًا طائفيًّا بعينه، وإنما كان يُجسِّد تحالفًا سلطويًّا عابرًا للطوائف، ضمَّ مكونات سنية، وكردية، ومسيحية، وعلوية، ودرزية، حيث أن المتضررين من هذا النظام فاقوا بأعدادهم أولئك الذين استفادوا منه، ما يجعل من التعميم الطائفي خطأً استراتيجيًّا يُفاقم حالة الانقسام المجتمعي.

من هنا تبرز الضرورة الملحَّة لأن يُعيد السيد أحمد الشرع، بوصفه على رأس الإدارة الانتقالية، النظر في آليات إدارة الدولة، مستعينًا بالكفاءات الوطنية المخلصة التي تنتمي إلى كافة الطوائف والمكونات السورية، بما يضمن بناء دولة مدنية حديثة تقوم على مبادئ العدالة والمواطنة المتساوية، فنجاح المرحلة الانتقالية يظل مرهونًا بمدى القدرة على تجاوز النزعات الفئوية والطائفية، وتكريس الهوية الوطنية الجامعة.

 

من أجل سوريا... لا انحيازات مناطقية أو طائفية

ولا يغيب عن الأذهان أن قيادة الدولة السورية، بما تُمثِّله من مسؤولية تاريخية، تتطلب تبنِّي رؤية وطنية شاملة تستوعب تطلعات الشعب السوري كافة، بعيدًا عن أي انحياز مناطقي أو طائفي، وفي ظل المشهد الإقليمي بالغ التعقيد، يُصبح من الضروري التحلي باليقظة حيال الأطراف الخارجية التي تسعى إلى إفشال التجربة السورية الجديدة، وفي مقدمتها إيران وأذرعها التي تحاول ترسيخ نفوذها في الشرق والغرب السوري.

الهجوم استهدف تقويض الأمن العام عبر نصب كمائن على المحاور الاستراتيجية والسيطرة على المراكز الحضرية الرئيسة في مدن اللاذقية، وبانياس، وجبلة، وطرطوس، مع امتداد نحو قاعدة حميميم، في محاولة واضحة لجرّ روسيا مباشرة إلى معادلة الصراع الجديدة.

أمام حجم الخسائر البشرية الجسيمة التي تكبدتها قوات الأمن العام، وحصار مجموعات من عناصره من قبل عصابات الشبيحة وفلول النظام السابق في مواقع حيوية كالكُلية البحرية في جبلة والمشافي والمقار الأمنية، وجدت الدولة الانتقالية نفسها أمام خيار مصيري بالغ التعقيد: فالقوات الحكومية داخل الساحل كانت محاصرة ومرصودة، ومواردها البشرية لم تكن كافية لشنّ هجوم مضاد فعال.

 

شبهات تمويل الأزمة وموارد الثأر

فاقم المشهد خطورة شبهات الدعم الروسي والإيراني للفلول، وهو ما كان ينبئ بإمكانية فرض واقع ميداني جديد يُهدد بتغيير موازين القوى، وبالتوازي مع ذلك، اندلعت هبّة شعبية عارمة مساندة للدولة، مدفوعة برغبة الثأر والتصدي للهجوم، تبعتها تعزيزات عسكرية من مختلف المناطق.

رغم حتمية التدخل العسكري، فإن اعتماد الدولة على النواة الصلبة المتمثلة في هيئة تحرير الشام، والتي تشكل العمود الفقري لوزارة الدفاع، كشف عن قصور واضح في قدرة الهياكل الرسمية على ضبط المشهد الميداني، فالقوى الشعبية والفصائلية المتدفقة، والتي شملت مقاتلين غير سوريين، لم تكن مدمجة في إطار تنظيمي محكم، ما أدى إلى افتقار العمليات إلى خطة عسكرية مركزية.

تجلّت تبعات حصر صناعة القرار في دائرة ضيقة وعدم توسيع إشراك القوى الوطنية في اتخاذ القرارات المصيرية، وهذا الواقع أدى إلى عدم ملاءمة البُنى الإدارية والعسكرية مع التحديات الطارئة، ورافقه تعويض نقص الأعداد عبر تخريج دفعات عسكرية متسرعة، ما فاقم مشكلات الكفاءة والقدرة على ضبط الأداء.

أمام هذا الوضع الحرج، كان هناك خياران: إما التريث حتى تنظيم قوة عسكرية فعالة، وهو ما كان سيعني ترك القوات الحكومية المحاصرة لمصير مجهول، أو الاعتماد على النواة الصلبة لهيئة تحرير الشام، رغم محدودية أعدادها والمخاطر المرتبطة بعدم يقين حجم قوات الفلول. 

نتيجة لذلك، انتشرت القوات في الميدان بشكل عشوائي، في ظل معركة معقدة لفك الحصار واستعادة السيطرة على المناطق الاستراتيجية، وهو ما أفضى إلى تصاعد حالات الفوضى والانفلات الأمني. وسط هذا المشهد، برزت دوافع انتقامية قديمة ترجمت نفسها إلى ممارسات غير منضبطة، ترافقت مع انتشار عصابات نهب وسرقة.

مع الساعات الأولى ليوم السابع من آذار، بدأت تظهر على وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع مصورة لعمليات إعدام ميدانية وانتهاكات جسيمة، يصعب في ظل الفوضى تحديد الجهات المسؤولة عنها، ورغم أن قوات ردع العدوان أبدت سابقًا مستوى عالٍ من الانضباط خلال معركة إسقاط النظام، فإن الوقائع الأخيرة تُنذر بفتح الباب أمام تحقيقات دولية مُكثفة لتحديد المسؤولين عن تلك التجاوزات.

شملت أبرز المناطق التي شهدت هذه الانتهاكات مدن بانياس وجبلة، وقرى المختارية، وصنوبر، وأرزة، وبينما تؤكد الشهادات الأولية أن ضحايا بانياس كانوا مدنيين، لا تزال الخلفيات الاجتماعية والسياسية للضحايا في القرى الأخرى غير واضحة.

في المقابل، لم تقتصر الانتهاكات على قوات الردع، إذ وثّقت التقارير أيضًا عمليات تصفية نفذها الفلول استهدفت عناصر أمنية ومدنيين على أساس هويتهم الطائفية، فضلًا عن عمليات إعدام نُفّذت في المشافي قبل انسحاب الفلول منها.

ومع انحسار خطر الفلول وابتعادهم عن المراكز الحضرية، بدأت وزارة الدفاع بمحاولات لضبط الوضع الأمني، مُعلنةً عن وقف مؤقت للعمليات العسكرية بغرض ملاحقة الجهات المسؤولة عن التجاوزات. كما أكدت مؤسسات الدولة، من الرئاسة إلى الأجهزة الأمنية والمحلية، رفضها القاطع لهذه الانتهاكات والتزامها بإجراء تحقيقات نزيهة وشفافة.

 

إيران... السم في العسل

يبدو أن إيران تواجه تحديات متزايدة في تنفيذ استراتيجيتها لإثارة الفوضى داخل سوريا، خاصة بعد فشلها في إشعال حرب أهلية عبر استغلال الانقسامات الداخلية والتناقضات بين الفصائل المسلحة، ومع تعثر هذا المخطط، يبرز تساؤل خطير حول إمكانية لجوء طهران إلى تصعيد آخر يتمثل في استهداف المزارات الشيعية في دمشق، وذلك في محاولة لإعادة خلط الأوراق وإثارة فتنة طائفية جديدة تخدم أجنداتها الإقليمية.

تعتمد إيران في تدخلها داخل سوريا على استراتيجيات متعددة، بدءًا من دعم الميليشيات المسلحة وتوظيف الحرب الإعلامية، وصولًا إلى استخدام أوراق أمنية حساسة تهدف إلى تأجيج الصراع، وإذا ما فشلت في تحقيق اختراقات سياسية أو عسكرية، فقد تلجأ إلى عمليات مدروسة تهدف إلى زعزعة الاستقرار من الداخل، حيث إن تفجير المزارات الشيعية قد يمنحها مبررًا لتعزيز وجودها العسكري والأمني بحجة "حماية المقدسات"، وهو ما قد يسمح لها بإعادة ترتيب وجودها داخل سوريا في ظل المتغيرات الحالية.

سبق أن استُخدمت المزارات الشيعية في العراق وسوريا كأداة لحشد الميليشيات وخلق بيئة من الصراع المذهبي، كما حدث في العراق بعد تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء عام 2006، والذي أدى إلى تأجيج صراع طائفي دامٍ، ومع تصاعد الضغوط على إيران حاليًا، فإن إعادة إنتاج هذا السيناريو في سوريا قد يكون خيارًا مطروحًا لإعادة ضبط مسار الأحداث وفقًا لمصالحها.

 

الهدف من هذه الخطوة المحتملة


إذا ما قررت إيران اللجوء إلى تفجير المزارات، فذلك قد يكون لتحقيق عدة أهداف، من بينها:

  • إعادة توجيه الأنظار عن إخفاقاتها السياسية والعسكرية في سوريا، وإيجاد مبررات لاستمرار وجودها العسكري.
  • خلق بيئة من الفوضى تمنع استقرار النظام السوري الجديد، وتتيح لإيران تقديم نفسها كطرف لا غنى عنه في إدارة المشهد الأمني.
  • حشد الميليشيات التابعة لها عبر استغلال العامل الطائفي، ما يضمن لها نفوذًا مستدامًا في سوريا، رغم التحديات الإقليمية والدولية.

 

إذا صحّت التقديرات بشأن إمكانية تنفيذ مثل هذا المخطط، فإن ردود الفعل الدولية والإقليمية ستكون حاسمة، فمن جهة، ستواجه إيران مزيدًا من العزلة والتنديد، ومن جهة أخرى، قد يؤدي ذلك إلى تسريع عمليات المواجهة ضد وجودها في سوريا، سواء من قبل تركيا أو الدول العربية أو حتى النظام السوري نفسه، الذي بات يرى في النفوذ الإيراني عبئًا على استقراره الداخلي.

بما فيه المصلحة الكبرى

 

توصلت الرئاسة السورية، إلى اتفاق تاريخي بالغ الأهمية يفضي إلى دمج قوات سوريا الديمقراطية ضمن الهياكل المؤسسية للدولة، في خطوة تُعدّ نقلة نوعية نحو إعادة توحيد الصف الوطني وترسيخ مبدأ الشراكة السياسية والاجتماعية.

وينص الاتفاق، الذي وقّع عليه الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مظلوم عبدي، على ضمان الحقوق المتساوية لجميع المواطنين السوريين في التمثيل والمشاركة الفاعلة في العملية السياسية وفي كافة مؤسسات الدولة، استنادًا إلى معايير الكفاءة والجدارة، بغض النظر عن خلفياتهم الدينية أو العرقية. 

كما يؤكد الاتفاق على أن المجتمع الكردي يُعدّ مكونًا أصيلًا وجزءًا لا يتجزأ من النسيج الوطني السوري، وأن الدولة السورية تلتزم بكفالة حقوقه الدستورية الكاملة، بما في ذلك حقه في المواطنة المتساوية.

ويتضمن الاتفاق، الذي نشرته وكالة الأنباء السورية الرسمية "سانا"، إعلان وقف فوري وشامل لإطلاق النار على جميع الأراضي السورية، ودمج كافة المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سوريا ضمن الإدارة المركزية للدولة السورية، بما يشمل المعابر الحدودية، والمطارات، وحقول النفط والغاز، بما يضمن سيادة الدولة على مواردها الاستراتيجية.

وفي سياق تعزيز الاستقرار الداخلي، نص الاتفاق على ضمان عودة آمنة وكريمة لكافة المهجّرين السوريين إلى بلداتهم وقراهم، مع تأمين حمايتهم التامة تحت مظلة الدولة السورية، وتوفير بيئة تكفل لهم حقوقهم وأمنهم، كما شدد الاتفاق على دعم جهود الدولة في مكافحة فلول نظام الأسد والتصدي لكل التهديدات التي تستهدف أمنها القومي ووحدتها الجغرافية والاجتماعية، ورفض كل محاولات التقسيم وخطابات الكراهية والسعي إلى بث الفتنة بين مكونات المجتمع السوري.

وقد تم تكليف اللجان التنفيذية المختصة بمتابعة تطبيق بنود هذا الاتفاق بدقة، على أن يتم الانتهاء من كافة الإجراءات التنفيذية قبل نهاية العام الحالي، بما يضمن تحقيق الأهداف المرجوة ويعزز مسار المصالحة الوطنية وبناء دولة المواطنة وسيادة القانون.

 

 

 

صادر عن مؤسسة مسارات الأردنية للتنمية والتطوير

10/3/2025