>

مآلات مشروع التهجير القسري لسكان قطاع غزة وموقف القمة العربية في الرياض

مآلات مشروع التهجير القسري لسكان قطاع غزة وموقف القمة العربية في الرياض

 

تمر المنطقة العربية بمنعطف حرج، أفضت إليه التداخلات المركبة بين صراع المصالح الدولية والإقليمية، وما رافقها من انزياحات حادة في موازين القوى، في ظل تصاعد النزعة الإقصائية في السياسات الإسرائيلية المدعومة أمريكيًا. 

وفي القلب من هذه التحولات، تبرز ملامح مشروع تهجير قسري يستهدف اقتلاع سكان قطاع غزة، كجزء من رؤية إعادة هندسة الخارطة الديمغرافية والسياسية في المنطقة، بما يرسّخ الاحتلال الاستيطاني كأمر واقع، ويُفرغ القضية الفلسطينية من مضمونها.

ومع انعقاد القمة العربية في الرياض، تشكل هذه المحطة اختبارًا حاسمًا لقدرة النظام العربي على بلورة موقف جماعي، يرتقي إلى مستوى التحديات الوجودية التي تفرضها المشاريع الإحلالية، ويتجاوز الصيغ الخطابية المعتادة نحو تبنّي مقاربات سياسية ودبلوماسية واقتصادية أكثر صلابة، تضع حدًا لمحاولات تصدير الأزمة الفلسطينية إلى دول الطوق، وفي مقدمتها الأردن ومصر.

 

أولًا: طبيعة المشروع التهجيري وتقاطعاته الإقليمية والدولية:

الإدارة الأمريكية، في إطار مقاربتها للحرب الجارية في غزة، تدفع باتجاه بلورة "صفقة قسرية" تحت عنوان إعادة الإعمار، تخفي في جوهرها مخططًا لتهجير سكان القطاع، مع إعادة توطينهم في الأراضي المصرية، وربما الأردنية، في سياق ما يُوصف بـ"الحل الإنساني الأمني".

هذا المشروع يستند إلى حزمة من العناصر المتشابكة، أبرزها:

  1. التدويل المموّه: عبر تشكيل لجنة فلسطينية وطنية لإدارة القطاع، بمشاركة أطراف دولية، لتجاوز حماس وإضفاء شرعية على ترتيبات ما بعد الحرب.
  2. الهندسة الأمنية: من خلال نشر حواجز أمنية على طول الحدود المصرية – الغزاوية، للحد من الأنفاق، بالتزامن مع دخول شركات متعددة الجنسيات لإزالة الأنقاض.
  3. اقتصاد التهجير المموّل: تحت عنوان "صندوق ترامب لإعادة الإعمار" (Trump Fund)، بتمويل خليجي ودولي، كآلية لتسهيل النزوح الطوعي عبر إغراءات مالية، في ظل انهيار البنية التحتية للقطاع.
  4. الإقصاء السياسي التدريجي: بتنحية حركة حماس، ولو مؤقتًا، لصالح قوى فلسطينية بديلة، بما يضمن كسر حالة المقاومة، وفرض معادلة "التهدئة مقابل الغذاء".

 

ثانيًا: التداعيات على الأردن:

إن أي تساهل، أو حتى حياد سلبي، حيال هذا المشروع، من شأنه أن يُفضي إلى انعكاسات كارثية على الأمن الوطني الأردني، تتجلى في المحاور التالية:

  1. الإخلال بالمعادلة الديمغرافية: بما يعيد إنتاج هواجس "الوطن البديل"، ويُراكم أعباء اجتماعية واقتصادية، في ظل أزمة بطالة متفاقمة، وبنية تحتية محدودة.
  2. زحف التمدد الإسرائيلي نحو الشرق: فإفراغ غزة من سكانها، قد يُشكّل مقدمة لموجة اقتلاع موازية في الضفة الغربية، بما يفضي إلى ضمها فعليًا، ويُضعف العمق الاستراتيجي الأردني، جرّاء إعادة إنتاج حساسيات الهوية بين مكونات المجتمع، ما قد يُفضي إلى اضطرابات داخلية.

 

ثالثًا: اختلال التموضع العربي والخليجي:

رغم صلابة الموقف الأردني، الذي عبّر عنه جلالة الملك عبد الله الثاني، وانسجامه مع نظيره المصري، إلا أن المشهد الإقليمي يتسم بحالة من التباين الحاد، بين دول ترى في المشروع تهديدًا وجوديًا، وأخرى تُقارب المسألة من زاوية استثمارية – براغماتية.

ولعلَّ الموقف القائل بأن "خطة ترامب هي الوحيدة على الطاولة"، يُفصح عن طبيعة التحولات في العقل العربي، الذي بات في جزء منه، يُغلب المصالح الاقتصادية مع واشنطن، على الثوابت القومية.

 

رابعًا: الموقف المطلوب من قمة الرياض:

إن مؤسسة مسارات الأردنية للتنمية والتطوير، ترى في القمة العربية اختبارًا لجدية الموقف العربي، تُشدد على أن ما هو مطلوب، يتجاوز إصدار بيانات رفض، إلى تبنّي استراتيجية متكاملة، تتمحور حول:

  1. الإعلان عن "خط أحمر عربي": يرفض التهجير القسري بأي صيغة كانت، باعتباره انتهاكًا صارخًا لاتفاقية جنيف الرابعة.
  2. بلورة "شبكة أمان أردنية – مصرية": تضمن عدم تحميل الدولتين أي تبعات ديمغرافية، مع تشكيل خلية أزمة مشتركة، لرصد أية ضغوط أمريكية.
  3. استخدام أدوات الضغط الاقتصادي: عبر إعادة تقييم الاستثمارات الخليجية في الولايات المتحدة، أو تقليص إنتاج النفط ضمن "أوبك"، كوسيلة للضغط على إدارة ترامب.
  4. تعليق بعض الالتزامات الثنائية مع إسرائيل: كإجراء تحذيري، بما يشمل مراجعة اتفاقيات الغاز، أو تقليص التعاون الأمني، كرسالة بأن اللعب بملف التهجير سيُقابل بردود غير تقليدية.
  5. تفعيل الدبلوماسية الصامتة: عبر تعزيز التواصل مع القوى الأوروبية (فرنسا، ألمانيا)، لتشكيل "لوبي مضاد"، يُوازن الهيمنة الأمريكية، ويُعيد طرح حل الدولتين.

 

خامسًا: التداعيات الاستراتيجية والمخاطر المحتملة
إن الإصرار على الإبقاء على الوضع الفلسطيني الراهن دون معالجة جوهرية لأزمة الشرعية والتمثيل ينذر بجملة من التداعيات الخطيرة، أبرزها:

  • إضعاف الموقف الفلسطيني في المحافل الدولية، حيث لن يكون هناك زخم سياسي حقيقي خلف سلطة تفتقد للدعم الشعبي الداخلي.
  • إضعاف التأثير العربي في مسار الحلول السياسية، إذ أن غياب قيادة فلسطينية موحدة وذات شرعية سيجعل من الصعب على الدول العربية فرض رؤيتها للحل النهائي.
  • تعزيز حالة الاستقطاب والانقسام داخل المشهد الفلسطيني، ما قد يؤدي إلى بروز كيانات موازية تسعى لملء الفراغ السياسي، وهو ما قد يفتح الباب أمام مزيد من التدخلات الخارجية التي لن تصب في مصلحة الفلسطينيين ولا العرب.
  • فقدان الدعم الشعبي العربي للمواقف الرسمية الداعمة للقضية الفلسطينية، نتيجة استمرار التماهي مع قيادة لا تحظى بشرعية داخلية حقيقية.

 

سادسًا: توصيات إلى صانع القرار الأردني:

في ضوء هشاشة التوافق العربي، تُوصي الورقة بما يلي:

  1. تكثيف التنسيق الأردني – المصري – الفلسطيني: لإنشاء تحالف ثلاثي، يفرض معادلته الخاصة على أي ترتيبات مستقبلية.
  2. رفع مستوى التأهب الداخلي: من خلال إعداد خطط طوارئ سياسية وأمنية، تحسبًا لأي تطورات ميدانية تُفضي إلى موجات نزوح.
  3. التحرك دبلوماسيًا نحو الصين وروسيا وأوروبا: لتأمين غطاء دولي، يُحبط أي محاولة لتمرير التهجير عبر أروقة مجلس الأمن.

 

سابعًا: تحولات النظام الدولي وصراع القوى بين إعادة التشكيل وإعادة الاستعمار الاقتصادي

إنّ العالم اليوم يقف عند مفترق طرق حاسم في سياق إعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي الدولي، حيث تتسم الساحة السياسية العالمية بسيولة غير مسبوقة، تفتح المجال أمام مخرجات جديدة تعيد صياغة موازين القوى، ولم يكن المشهد الدولي في العقود الأخيرة أكثر اضطرابًا وتعقيدًا مما هو عليه الآن، إذ تترابط الصراعات وتتشابك الأجندات، مما يفرض على الدول الفاعلة إعادة تعريف استراتيجياتها بما يتناسب مع متغيرات المرحلة.

في هذا الإطار، تتجه الحرب في أوكرانيا نحو مآلات تتجاوز مجرد الحسم العسكري المباشر، لتتموضع في إطار إعادة ترتيب التحالفات الجيوسياسية، وبذلك، بات من شبه المؤكد أنّ الولايات المتحدة ستسعى، مهما كلفها الأمر، إلى التوصل إلى تسوية تُبقي على الهيبة الروسية، لا انطلاقًا من مبدأ الاعتراف بمكانة موسكو الدولية، ولكن بهدف تفكيك الارتباط الاستراتيجي بينها وبين إيران، بما يتيح لإسرائيل والولايات المتحدة تنفيذ المرحلة التالية من خطتهما في الشرق الأوسط. 

ووفق هذا المنظور، فإنّ إيران، بعد تحييد روسيا، ستجد نفسها وحيدة في مواجهة حصار شامل، سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا، سيؤدي في نهاية المطاف إلى تحجيمها واحتوائها وربما، إذا اقتضت الضرورة، استهدافها عسكريًا.

لكنّ هذه التحولات لا تأتي في سياق منفصل عن المشهد الدولي الأكبر، إذ إنّ التركيز الأمريكي على روسيا وإيران يُعَدّ خطوة تمهيدية لإعادة التموضع في مواجهة الصين، التي تبقى الهدف الأكثر تعقيدًا في الاستراتيجية الأمريكية الرامية إلى إعادة فرض الهيمنة على النظام الدولي.

 ويأتي في هذا السياق الإعلان عن مشروع تجاري ضخم، كشف عنه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وهو اتفاق استراتيجي مع رئيس الوزراء الهندي لإنشاء ممر تجاري يمتد من الهند إلى إسرائيل، ثم إلى إيطاليا، وصولًا إلى الولايات المتحدة، في خطوة وصفها بأنها "واحدة من أعظم المشاريع التجارية في التاريخ".

غير أنّ هذا المشروع، الذي قد يبدو للوهلة الأولى مجرد مبادرة اقتصادية، يخفي خلفه أبعادًا جيوسياسية عميقة، ذلك أنه يشكل امتدادًا لمبادرة الممرات المائية التي أعلن عنها الرئيس بايدن في مايو 2023، قبل أربعة أشهر فقط من بدء العدوان الإسرائيلي على غزة، وعند تفكيك أبعاد هذا المشروع، يتضح أنه إعادة رسم لخريطة النفوذ التجاري، بما يضمن ضرب مشروع "الحزام والطريق" الصيني، وتوجيه ضربة اقتصادية قاصمة لكل من روسيا وإيران، فضلًا عن تقويض دور مصر من خلال تقليل الاعتماد على قناة السويس وموانئها.

ويُعَدّ قطاع غزة، وفق هذه الرؤية، نقطة ارتكاز مركزية لهذا المشروع، وهو ما يفسر الطروحات المتزايدة حول "إعادة إعمار غزة"، ليس من منطلق إنساني، وإنما في سياق دمج القطاع في بنية المشروع الاقتصادي الأمريكي الجديد، وهذا ما يعيد تسليط الضوء على مخططات التهجير القسري، التي لا يجب النظر إليها على أنها إجراءات عسكرية عشوائية، بقدر ما هي عملية منظمة تهدف إلى إعادة تشكيل البنية الديموغرافية للقطاع، بما يخدم الأجندة الاقتصادية والجيوسياسية لهذا المشروع.

وعليه، فإنّ ما يطرحه ترامب تجاوز في مراده مسألة الدعاية الانتخابية أو التصريحات الاستعراضية، فهو جزء من مشروع متكامل يعكس رؤية إستراتيجية طويلة المدى تهدف إلى إعادة استعمار العالم اقتصاديًا، وإحكام قبضة الولايات المتحدة على مفاصل التجارة الدولية، وإعادة إنتاج الهيمنة الأمريكية وفق أسس جديدة، ومن هذا المنطلق، أصبحت القضية الفلسطينية، وتحديدًا قطاع غزة، ملفًا منفصلًا، ومكونًا جوهريًا في هذه المعادلة، الأمر الذي يستدعي استجابة فلسطينية وعربية أكثر وعيًا وحزمًا في التعامل مع هذه التحديات.

إنّ البقاء الفلسطيني في غزة عنصر أساسي في الحفاظ على التوازنات الإقليمية، ومنع انزلاق المنطقة إلى مشاريع تهدد الأمن القومي العربي برمته، ولذلك، يجب أن يكون الهدف الأسمى هو تثبيت الوجود الفلسطيني في القطاع، وعدم السماح بتمرير مخطط التهجير بأي شكل من الأشكال، حتى وإن تم إدماج غزة في مشاريع اقتصادية دولية، كما يجب أن يكون الفلسطينيون جزءًا فاعلًا من أي ترتيبات مستقبلية، بما يضمن استفادتهم من الثروات الطبيعية والموقع الإستراتيجي للقطاع، دون المساس بحقوقهم الوطنية والتاريخية.

إنّ الإمبراطوريات لا تقدم شيئًا بالمجان، وهي كالثور الجامح، تدوس كل من يقف في طريق مصالحها، ولكنّ القدرة على المناورة والاستفادة من التناقضات الدولية تبقى مفتاح الحفاظ على الحقوق العربية، وما بين مشاريع الهيمنة ومساعي الاستقلال، يبقى امتلاك الإرادة السياسية والوعي الاستراتيجي هو العامل الحاسم في تحديد مسار المنطقة، إما نحو الاستتباع الكامل، أو نحو بناء معادلة قادرة على فرض التوازن والمصالح المشتركة.

ولا يمكن النظر إلى التطور الملحوظ في الموقف السعودي تجاه القضية الفلسطينية بمنأى عن تتويجه بمحطة مفصلية تمثلت في قمة الرياض، التي تأتي في ظل هذا المنعطف التاريخي بالغ الحساسية، فقد جاءت هذه القمة لتعكس ذروة التحولات التي شهدتها الدبلوماسية السعودية خلال الأشهر الأخيرة، بما يجعلها – في التحليل العميق – امتدادًا موضوعيًا لمسار منضبط ومدروس، عززت من خلاله الرياض موقعها كضابط إيقاع رئيسي في التعاطي العربي مع تداعيات العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وارتداداته الإقليمية التي تظهر في محاولات التهجير.

وتشكل قمة الرياض تجليًا عمليًا لما يمكن تسميته بـ"الاستراتيجية السعودية المُركبة"، التي جمعت بين تبني خطاب سياسي حازم، يُكرس رفضًا قاطعًا لمشاريع التهجير القسري، باعتبارها خرقًا سافرًا للقانون الدولي، وارتقاءً إلى مستوى جريمة التطهير العرقي، وبين مقاربة براغماتية واقعية تدفع باتجاه بلورة موقف عربي موحد، قادر على فرض نفسه كرقم صعب في أي معادلة تسوية مستقبلية.

 

خاتمة:

تُدرك مؤسسة مسارات الأردنية أن الخيارات أمام الأردن قد تكون ضيقة، لكن التجربة التاريخية تؤكد أن الحفاظ على الثوابت، حتى في أحلك الظروف، هو الضمانة الوحيدة لصيانة الأمن الوطني، وحماية المشروع الفلسطيني.

وعليه، فإن القمة العربية مدعوة لأن تكون "قمة سيادة القرار العربي"، لا "قمة تصريف الأزمات"، لأن أي تهاون اليوم، يعني أن الأردن ومصر سيدفعان الثمن غدًا، من استقرارهما ووجودهما.

صادر عن مؤسسة مسارات الأردني للتنمية والتطوير


 

تاليا رابط ورقة الموقف