الصراع على النظام العالمي … أميركا إلى الآن رابحة

الفريق البحثي في مسارات

لم يستهدف الهجوم الروسي الشامل على اوكرانيا، تغيير النظام في كييف الى “حكم تابع” فحسب، بل جاء لينقل للغرب، تحديدا للولايات المتحدة الاميركية، رغبة روسية بالعودة للمسرح الدولي كلاعب رئيس اصابه الملل من الركون في الزاوية البعيدة، يظن نفسه قد انهى مرحلة الصعود السلمي، وجاء الوقت ليقف على خشبة المسرح، خشنا يستثمر الحرب والرعب.

روسيا لم تتردد في استخدام قوتها العسكرية لحماية “حدودها الاستراتيجية”، مع الاستعداد للخروج الى حرب اعتقدت القيادة الروسية انها معركة تكتيكية قصيرة المدى ومتواضعة الخسارات، كما ظنت ان الجانب الخاطف فيها متاح، يدشن لمزيد من الصعود وفرض الهيبة.

يتشكك المحللون الاستراتيجيون المعتبرون، في تقييم السلوك الروسي، على انه محاولة وقراءة روسية لإنهاء الهيمنة الأمريكية العالمية، وتثبيت نظام عالمي متعدد، يعبر بإخلاص عن أهمية روسيا ومركزيتها.

ورغم حالة عدم اليقين هذه، الا اننا على قناعة، بأن “روسيا بوتين” باتت في الاونة الاخيرة مشتِت استراتتيجي للغرب والولايات المتحدة، وان مزاحمتها القلق لملف الصين، بات امر يتحدث عنه كبار المفكرين في واشنطن واوروبا.

الغرب بقيادة الولايات المتحدة لم يكن ليسمح بمرور الروس الى اوكرانيا على قاعدة النزهة والاستسهال، فمثل تلك الخطوة كانت لتجعل من بوتين لاعب حقيقي في النظام العالمي، والاخطر ان الصين ستراقب الشقوق لتحقق المزيد من الانتصارات، وربما كانت لتفكر باجتياح تايون.

الولايات المتحدة … ممنوع المرور

دخل الرئيس بايدن إلى الأزمة وهو يواجه مصاعب عديدة في الداخل والخارج، شعبية متدنية، انتقاد متزايد في ضوء الوضع الاقتصادي، انسحاب فوضوي من أفغانستان، اتفاق نووي متحقق مع إيران، وفوق كل ذلك المس بصورة وهيبة الردع الأمريكي في العالم.

ما سبق يمكن اعتباره “ميزان مرحلي استراتيجي”، لكنه يتساند ويتعاضد مع خطر صعود روسيا استراتيجيا في توقيت تتوجه الانظار الاميركية نحو الصين، وتعتبرها الاولوية الاهم في الرصد الاستراتيجي، مما جعل الصعود الروسي خطرا يستحق اقتناص فرصة “الازمة الاوكرانية” لترويضه واعادته للوراء.

هنا تَقَرَرَ التدخل في الازمة، ورفع الكلفة على بوتين، وجعله يتعثر بمغامرة ذات حجم اكبر من توقعاته، فرغم ادراك واشنطن انه لن يسمح لنفسه بالهزيمة، الا انها تعمل على توافر اجواء هزيمته او على اقل تقدير رفع الكلفة لاقصى مدى استراتيجي ومرحلي.

الغرب، قرر ان يكون على قلب رجل واحد ينبض في واشنطن، اتخذ سياسة ضغط شاملة تدرجية بسرعة معقولة، هدفها صد العدوان الروسي من جهة وتأخيره،من ثم تعظيم الخسائر الاقتصادية الروسية، كذلك عمل على جعل موسكو منبوذة في العالم، تحتاج الى اعادة تأهيل، كل ذلك والغرب لا يطلق رصاصة واحدة ويكتفي باجراءات اقتصادية وسياسية، الى جانب دعم الصمود الاوكراني المجهول مداه وطبيعته.

واشنطن … اهداف في مرمى اوروبا والناتو

التعثر الروسي في اوكرانيا سيكون ثمنه كبير على مشروع بوتين، اما انتصاره السهل في السهوب الاوكرانية كان ليشكل كارثة جيوسياسية في القارة الاوروبية والعالم، واعادة توزيع للكراسي في النظام العالمي.

نجحت الولايات المتحدة في توحيد الناتو، وبلورة ائتلاف ناجع يضم الاتحاد الأوروبي، وأستراليا، ونيوزيلندا، وتايوان واليابان، وعملت على قيادة خطوات غير مسبوقة هدفها المس الشديد اقتصادياً بروسيا، وعزلها في الساحة العالمية، مع تصنيفها كقوة رجعية تقوض الاستقرار العالمي.

هنا حققت الولايات المتحدة الاميركية كثير من الاهداف في الشباك الاوروبية، فمن جهة أعادت اوروبا لبيت الطاعة الاميركي ذلك من باب “العدو المشترك الحقيقي”.

ولعل التراجعات التي نشهدها ويتزايد ايقاعها للتيار التنقيحي الذي طغي في الاعوام الاخيرة اوروبيا والمطالب بالابتعاد اكثر عن السياسات الاميركية، خير دليل على حجم الفوائد التي ستراكمها واشنطن من “التوحش المتعثر” لروسيا.

الفائدة الاخرى من التورط الروسي في اوكرانيا، واقدامها على الحرب، يأتي من خلال شعور الجميع بضرورة اعادة انتاج حلف الناتو، وضرورة استعادته لدوره العسكري، ولعل تهديدات موسكو النووية ستجعل من “فوبيا الفناء” طريق مفروش بالورود لعودة الولايات المتحدة لسدة القيادة الفعلية للناتو وللعالم الغربي برمته.

الصين في عين العاصفة

الصين تنسق مع روسيا بحدود غير تحالفية ونصف استراتيجية، وتسعى لضرب النظام العالمي الأمريكي والدفع باستراتيجية “الطريق والحزام” إلى الأمام كوسيلة لتوسيع نفوذها الاقتصادي والسياسي.

ومع ذلك، لا يعني هذا الأمر أن الصين ستستغل الأزمة، وتتحدى الولايات المتحدة والغرب بشكل مباشر من خلال تصعيد في ساحة إضافية.

فالاستراتيجية الصينية بعيدة المدى، تسعى لتثبيت نفوذها العالمي تدريجياً، لذلك، في حالة إبداء الولايات المتحدة ضعفاً والسماح لموسكو بتحقيق أهدافها الاستراتيجية، لن تتردد بكين أغلب الظن في استغلال ذلك والعمل على خطوات قوة من جانبها في بحر الصين الجنوبي.

الى الان مآلات المعركة لا تعجب الصين، فالتورط الروسي في مستنقع اوكرانيا، ومن ثم تراجع موسكو عن قدرتها الاشغالية لواشنطن استراتيجيا، تلك امور لم تكن ضمن امنيات بكين وليست في حساباتها.

اما السياسة الحولاء للرئيس الروسي بوتين، لن تخدم الصين، فرغم عدم معرفتنا بشكل النهاية التي ستستقر عليها الحرب هناك، الا ان “لعبة الكلفة والصورة” تشي بان واشنطن تحصد الكثير حتى الان.

ماذا لو انتصر بوتين

السؤال الاهم، ماذا لو انتصر بوتين واستبدل النظام الحالي في اوكرانيا بآخر حليف له، هل ستتغير لغة الحصاد وموازينه؟ بتقديرنا ان واشنطن تحاول ان لا تصل لتلك النتيجة، فالعقوبات لم تصل للمدى الاخير، ورغم ذلك، ففي حسابات البيت الابيض حالة عدم اغفال لتلك النتيجة المحتملة جدا “اي انتصار بوتين”.

واضح ان الاستراتيجية الاميركية، تقوم على “محاولة” الحفاظ على حكم زلنسكي، لكنها مهتمة اكثر بتأخير الهزيمة ورفع الكلفة على روسيا، وتوريط موسكو بمزيد من السقوط الاخلاقي والعزلة الدولية، مما يعني ان عودة موسكو لما قبل اجتياح اوكرانيا سيكون مرهق ومكلف ويحتاج لسنوات بعيدة.

الجانب الاخر الاوضح في السياسة الاميركية يرى هزيمة روسيا في اوكرانيا او انتصارها مبرر لبث مزيد من الخوف في انحاء اوروبا، مما يؤكد حاجة القارة العجوز لحماية واشنطن، وهنا تتحقق النتيجة والاهداف الاميركية.

في ملف الصين، لن تقبل بكين ان تعمل على مساعدة روسيا اقتصاديا وسياسيا بالقدر المأمول، فالحالة الصينية احوج لحليف قوي يشغل الولايات المتحدة، لا الى حليف مترنح يطلب عونها.

في الخاتمة، تبدو واشنطن اكثر سيطرة على مخرجات الحرب، واكثر استثمارا لنتائجها مهما كانت، فمنذ اللحظة التي انتهى فيها مفهوم الحرب الخاطفة وتورطت موسكو، ادركنا ان بايدن ومؤسسته العسكرية التقطوا الاشارة وغادروا الى الحقل من اجل الحصاد.