ورقة موقف: الضفة الغربية بوصفها نقطة ارتكاز حاسمة ومِحكّ الممانعة صادرة عن مؤسسة مسارات الأردنية للتنمية والتطوير
إليكم ورقة موقف: "الضفة الغربية بوصفها نقطة ارتكاز حاسمة ومِحكّ الممانعة"، والتي تظهر انفلاتًا تدريجيًا في منسوب العنف، وإلى اندفاع مُمنهج نحو إيجاد وقائع نهائية على الأرض، بما يحوّل الضفة من ملف تفاوضي مؤجّل إلى مسرح حسم مفتوح يسعى المشروع الصهيوني إلى قفل مساره باتجاه السيادة الكاملة.
وعليه، تغدو الضفة الغربية اليوم معيارًا كاشفًا يمكن عبره استشراف اتجاهات الصراع، ورصد حدود القدرة الإسرائيلية على فرض خطتها الجديدة، كما تصبح المؤشر الأهم لاختبار طاقة الممانعة الفلسطينية، وفاعلية الضغط الدولي، وإمكانية تشكّل توازنات إقليمية مضادة قبل أن يتحول المشهد إلى واقع مُغلق لا قابلية فيه للارتداد أو التصحيح.
ورقة موقف: الضفة الغربية بوصفها نقطة ارتكاز حاسمة ومِحكّ الممانعة
صادرة عن مؤسسة مسارات الأردنية للتنمية والتطوير
المقدمة
تدخل الضفّة الغربية في لحظة مفصلية غير مسبوقة، لا يمكن تفسيرها بوصفها امتدادًا للحرب على غزة، ولا باعتبارها نتاجًا ظرفيًا لاهتزاز البيئة الإقليمية؛ ذلك أنها المجال الجغرافي - السيادي الأكثر مركزية في بنية التحوّل الجاري داخل المنظومة الصهيونية.
الضفة تحوّلت إلى نقطة الارتكاز التي تتقاطع عندها الاستراتيجية للمشروع الصهيوني الجديد مع طموحات اليمين الديني - القومي في إعادة تشكيل الإقليم السياسي وفق سيادة أحادية لا تقبل الشراكة ولا القابلية للتراجع.
ومنذ تشكّل الحكومة الإسرائيلية الحالية، تتقدم مقاربة تتجاوز منطق "إدارة الاحتلال" بوصفه حالة أمنية مستدامة، لتنتقل إلى مشروع أكثر عمقًا واتساعًا يقوم على إعادة إنتاج الضفة الغربية كحيز سيادي مندمج في منظومة الحكم الإسرائيلية، عبر تفكيك الحضور الديموغرافي الفلسطيني، وتوسيع نطاق المستوطنات كأذرع حاكمة، وإعادة تعريف مركز اتخاذ القرار داخل إسرائيل بطريقة تمنح الفاعلين الأيديولوجيين – لا المؤسّسات التقليدية – اليد العليا في صياغة مستقبل الضفة وإدارتها.
ويتزامن هذا التحوّل مع بيئة دولية وإقليمية عالية السيولة، ومع تصاعد إحساس وجودي بالتهديد داخل المجتمع الإسرائيلي، تعمّق بفعل حرب غزة وما رافقها من هزّات عسكرية وسياسية.
وقد أدى ذلك إلى انفلات تدريجي في منسوب العنف، وإلى اندفاع مُمنهج نحو إيجاد وقائع نهائية على الأرض، بما يحوّل الضفة من ملف تفاوضي مؤجّل إلى مسرح حسم مفتوح يسعى المشروع الصهيوني إلى قفل مساره باتجاه السيادة الكاملة.
وعليه، تغدو الضفة الغربية اليوم معيارًا كاشفًا يمكن عبره استشراف اتجاهات الصراع، ورصد حدود القدرة الإسرائيلية على فرض خطتها الجديدة، كما تصبح المؤشر الأهم لاختبار طاقة الممانعة الفلسطينية، وفاعلية الضغط الدولي، وإمكانية تشكّل توازنات إقليمية مضادة قبل أن يتحول المشهد إلى واقع مُغلق لا قابلية فيه للارتداد أو التصحيح.
الفصل الأول: الضفّة الغربية بوصفها الحيّز التأسيسي لإعادة تشكيل النسق الصهيوني
تحولت الضفّة الغربية، إلى فضاء تأسيسي تُعاد من خلاله صياغة البنية العميقة للمشروع الصهيوني ذاته، بما يتجاوز حدود السلوك التكتيكي إلى مستوى التحوّل العقائدي – المؤسسي، ذلك أنّ الضفة، بخلاف ميادين الصراع الأخرى، تُعدّ "حيّزًا مُنشئًا" لا "حيّزًا تابعًا"، أي مجالًا يُعاد فيه تعريف مفهومي الدولة والسيادة لا مجرد اختبارهما.
ومن هذا المنظور، لا يمكن فهم ما يجري في الضفة عبر عدسة الحرب على غزة باعتبارها محرّكًا مباشرًا، وإنما من خلال بنية ثلاثية متشابكة: أولًا، انتقال مراكز إنتاج القرار من المؤسّسة الأمنية البراغماتية إلى الكتلة الأيديولوجية اليمينية ذات النزوع التوراتي؛ وثانيًا، تفكّك نموذج "الإدارة تحت الاحتلال" الذي ساد منذ 1967 لصالح منطق "الالتحاق السيادي التدريجي"؛ وثالثًا، صعود رؤية تعتبر الضفة قاعدة أنطولوجية لوجود الدولة ومعيارًا لمشروعية الحكم داخلها.
ولعلّ أبرز ما يُظهر هذا التحوّل أنّ الضفّة أصبحت تُدرَك ـ في العقل السياسي الإسرائيلي الراهن ـ على أنها مجال سيادي يجب إخضاعه لإعادة هيكلة قانونية، وديموغرافية، وجغرافية متكاملة، تُفضي ـ في محصّلتها النهائية ـ إلى تحويل الاحتلال من وضع قانوني مؤقّت إلى وضع سيادي مُطَبّع، ولو دون إعلان رسمي، وهو ما يفسّر التحوّل من إدارة الصراع إلى حسم الجغرافيا، ومن احتكار الجيش لملف الضفة إلى "تمدين" القرار ونقله إلى البنية السياسية العليا، بما يحوّل السيادة من وظيفة عسكرية إلى بنية حُكم.
وفي سياق هذا التحوّل، تتخذ المستوطنات مكانة جديدة بوصفها بنى وظيفية يجري دمجها تدريجيًا في منظومة صنع القرار، بحيث تتحوّل من جيوب متناثرة إلى شبكات سلطة، ومن وجود مادي إلى بنية حكم، ومن هامش جغرافي إلى مركز سيادي بديل، وهو ما يضفي على الاستيطان بُعدًا مؤسسيًا لا عسكريًا فحسب.
وتتّسق هذه الرؤية مع بنية وعي ديني تاريخي تعتبر الضفة، لا غزة ولا الجبهة الشمالية، المجال الذي يُقاس عليه معيار "اكتمال المشروع"، لأنّه يمثّل ـ وفق المخيال التوراتي ـ المساحة التي يلتقي فيها الموروث الرمزي بالتصوّر السياسي، بما يجعلها جبهة هوية، وبالتالي جبهة مصير.
الفصل الثاني: إعادة تشكيل المجال الاستعماري في الضفّة الغربية
خطورة اللحظة الراهنة في الضفّة الغربية تتمثل في تصاعد أفعالٍ عدائية متناثرة أو من انفجارات غضب استيطاني ظرفي نقل العنف من خانة السلوك الفردي إلى مرتبة "الوظيفة السيادية"، بحيث بات العنف ذاته أحد أعمدة إعادة تشكيل المجال السياسي - الجغرافي تحت إدارة اليمين الديني – القومي.
المشهد الجاري هو التعبير الأكثر اكتمالًا عن منظومة متشابكة، تتعالق فيها الأجهزة العسكرية، والأمنية، والقضائية، والإدارية ضمن بنية متكاملة هدفها النهائي إنتاج واقع استعماري جديد لا يمكن التراجع عنه.
وبموجب هذا التحوّل، انتقلت إسرائيل من ممارسة "التحكّم الأمني" إلى "عقلنة العنف" بوصفه أداة تخطيطية مُبرمجة تهدف إلى إعادة فرز الفضاء الديموغرافي، وتفكيك البنية المجتمعية الفلسطينية، وتحويلها إلى وحدات بشرية معزولة فاقدة القدرة على تشكيل كتلة مقاومة أو وحدة جغرافية قابلة للحياة. ومن هنا، أضحى العنف الاستيطاني حلقة في سلسلة بيروقراطية - قانونية مُحكمة، تمنح المعتدي حصانة تُسقِط مسؤولية الدولة الرسمية تحت غطاء الإجراءات الشكلية.
فالمستوطن الذي يمارس تهجيرًا قسريًا أو استيلاءً على ممتلكات أو اعتداءً مسلحًا، يجد أمامه نظامًا قضائيًا يُعيد تعريف الجريمة بوصفها "إجراءات دفاعية"، ويحيل الاعتقال إلى طقس رمزي لا يتجاوز ساعات، بينما يُنقل الفلسطيني من موقع الضحية إلى موقع "الفاعل التهديدي"، في انقلابات لغوية وقانونية مقصودة تهدف إلى نزع الشرعية عن الوجود الفلسطيني نفسه.
هذا التواطؤ المؤسسي يبرهن على اندماجٍ عميق بين الدولة ككيان سيادي ومنظومة الاستيطان كمشروع أيديولوجي، حتى غدا من المتعذّر التمييز بين قرار الدولة ومصلحة المستوطن.
ومع اندلاع الحرب على غزة، تشكّل ما يمكن تسميته بـ"عقيدة الإبادة الباردة"، وهي عقيدة تمتد إلى إعادة تعريف الفلسطيني بوصفه خطرًا وجوديًا، لا شريكًا سياسيًا ولا حتى كيانًا قابلًا للتعايش، وقد اكتسبت هذه العقيدة شرعيتها من محورين متوازيين: صعود اليمين الديني - القومي إلى موقع التحكم بمفاصل القرار، وتحوّل المجتمع الإسرائيلي ذاته نحو ذهنية كاسرة ترى في كل تراجعٍ ميداني مبررًا لإطلاق سياسة انتقام سيادي غير مقيدة.
وبعد انهيار السرديات اليمينية التي بشّرت بإعادة استيطان غزة وصياغة "جغرافيا انتصار" في محيطها، تحوّلت الضفة الغربية إلى الحيّز التعويضي الوحيد القادر على امتصاص الفشل العسكري وتوظيفه في إنتاج سردية سيادة بديلة. ومن ثمّ باتت الضفة "المسرح الإلزامي" لإعادة بناء الهيبة، وترميم الردع، وانتزاع مكسبٍ ملموس يُقدَّم للجمهور الإسرائيلي بوصفه فتحًا استراتيجيًا.
الفصل الثالث: العنف بوصفه أداة سيادية في الضفّة الغربية
لا يمكن فهم موجة العنف الممنهج في الضفّة الغربية بوصفها مجرّد ارتداد منفعل على إخفاقات اليمين الإسرائيلي في الجبهات الأخرى، إذ يتعيّن مقاربتها كنتاج مركّب لثلاثة عناصر متداخلة: الإحباط الأيديولوجي، وانسداد الأفق التوسّعي خارج الضفّة، وتنامي القيود الدولية التي كبحت خيارات الضمّ المباشر. وبهذا المعنى، أصبحت الضفة - لا غزة ولا الشمال - المجال الأخير الذي يمكن فيه لليمين الديني-القومي استكمال مشروعه برؤية "السيادة الزاحفة"، عبر العنف لا عبر التشريع فقط.
إذ إنّ فشل اليمين في ترجمة وعوده الكبرى - سواء إعادة استيطان غزة، أو تحقيق اختراق استراتيجي في الجبهة الشمالية، أو فرض حضور توسّعي في الإقليم - حوّل الضفة إلى ما يشبه "وعاء التفريغ الأخير" للإحباط السياسي والعقائدي.
هذا التحوّل نقل العنف من عتبة السلوك الفردي إلى نهج مؤسسي، تُدار وفق منطق شبه انتقامي، وتُنفّذ كعمليات ممنهجة لا تخضع لأي قيد ردعي أو رقابة فعلية، في ظل انسجام واضح بين أجهزة الجيش والشرطة والقضاء ومنظومة الاستيطان.
وفي المقابل، ورغم التزام واشنطن التاريخي بأمن إسرائيل، فإن الإدارة الأمريكية لا تبدي استعدادًا لمنح حكومة نتنياهو تفويضًا مفتوحًا للضمّ الرسمي أو توسيع السيادة المعلنة في الضفة.
إنّ التحفّظ الأمريكي بلغ مستوى دفع شخصيات كانت تُعدّ جزءًا من "الحاضنة التقليدية" للاستيطان في واشنطن إلى إعلان رفض واضح لأي خطوة ضمّ مباشر. وهو ما شكّل ضربة قاصمة لليمين الإسرائيلي، الذي كان يعوّل على الغطاء الأمريكي لشرعنة مشروعه الإستيطاني وتحويله من واقع ميداني إلى واقع سيادي مكتمل.
وتأتي موجة الاعترافات المتتالية بالدولة الفلسطينية - من دول غربية وأخرى عربية - لتزيد منسوب الذعر داخل معسكر اليمين، الذي يرى في هذه التطورات تهديدًا وجوديًا لجوهر المشروع الصهيوني في صيغته الجديدة، القائم على منع إمكان نشوء كيان فلسطيني مستقل بأي صورة. وقد أسهم هذا القلق في إطلاق ديناميكية عنف أكثر جذرية، حرّرت القرار الميداني من أي ضوابط سياسية أو عسكرية، ودفعته نحو مستوى من التفلت غير المسبوق.
وعليه، ما يجري في الضفة الغربية يمثل مشروعًا متكاملًا يستهدف بنية الوجود الفلسطيني من جذورها: تهجير منظّم في جنين، وطولكرم، ونور شمس، تشريعات تُحوّل الأراضي الفلسطينية إلى ملكيات سيادية إسرائيلية، وتكثيف استيطاني يهدف إلى إعادة صياغة الديموغرافيا بما يمنع إمكانية قيام كيان فلسطيني في المستقبل، لذلك، فإنها محاولة لإعادة تشكيل الحيّز الجغرافي بطريقة تجعل "حلّ الدولة الفلسطينية" مستحيلًا لا سياسيًا فحسب، وإنما ماديًا على الأرض.
ورغم خطورة هذه السياسات وتسارعها الصادم، إلا أنها تتناقض مع اتجاهات البيئة الدولية والإقليمية، ومع صلابة المجتمع الفلسطيني الذي أثبت مرارًا قدرته على امتصاص الصدمات وإعادة إنتاج ذاته، غير أن المؤشرات المتراكمة تدفع باتجاه تحذير جوهري: المرحلة المقبلة قد تكون الأكثر دموية وتعقيدًا، في ظل الانفلات اليميني، واحتمال انتقال العنف نحو استهداف شخصيات فلسطينية مفصلية، بما قد يفتح الباب أمام تصعيد غير مسبوق يعيد تشكيل قواعد الصراع برمّتها.
الخاتمة
تكشف المعطيات الراهنة في الضفة الغربية عن لحظة شديدة التعقيد تتجاوز حدود العنف الميداني إلى مشروع متكامل يستهدف بنية الوجود الفلسطيني وهويته السياسية والديموغرافية. غير أنّ هذا المشروع، رغم توسّعه وجرأته، يصطدم بجملة من العوامل الكابحة: من توازنات المجتمع الدولي، إلى المواقف الإقليمية المتغيرة، وصولًا إلى قدرة الفلسطينيين على الصمود وإعادة إنتاج أدوات المقاومة السياسية والمجتمعية.
وعليه، فإن مستقبل الضفة الغربية سيتحدد عند نقطة التفاعل بين هذه المسارات: قدرة اليمين الإسرائيلي على الاستمرار في فرض وقائع أحادية، وحدود الهامش الدولي تجاه سياسات الضم وتغيير البنية الديموغرافية، وإمكانية بلورة موقف فلسطيني موحّد قادر على التعامل مع هذه المرحلة المفصلية.
وإزاء هذا المشهد، تبدو الضفة الغربية البوصلة التي ستحدد شكل الصراع القادم، وطبيعة الحلول الممكنة، ومكانة القضية الفلسطينية في النظام الإقليمي والدولي خلال السنوات المقبلة.
صادرة عن مؤسسة مسارات الأردنية للتنمية والتطوير
24/11/2025





