ورقة موقف صادرة عن مؤسسة مسارات الأردنية بعنوان: سوريا والقادم للمنطقة
التطورات في سوريا: الخطر يقترب... ما المطلوب أردنياً؟
استعرضت الجلسة الأسبوعية لمؤسسة المسارات الأردنية، أبرز المستجدات على الساحتين المحلية والإقليمية، مع التركيز على القضايا التي تمس المصالح الوطنية الأردنية العليا، سواء في المحيط العربي أو الدولي. موضوع اليوم يتناول التطورات الأخيرة في سوريا، والتي كانت محوراً للنقاش في جلسة الأسبوع الماضي أيضاً.
سوريا، هذا البلد الجار الذي يشترك مع الأردن بحدود طويلة، يشهد تغيرات جذرية مع رحيل النظام الحاكم بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي بعد 54 عاماً من الهيمنة. تشير التقارير إلى أن رأس النظام، بشار الأسد، غادر البلاد، واستقرت به الحال في روسيا، فيما تشكلت حكومة انتقالية لاستلام زمام الأمور.
خلال هذه الجلسة، سنناقش محاور عدة تتعلق بتداعيات هذه التحولات على الأردن. من أبرز المحاور:
- انعكاسات الوضع السوري على الأردن: كيف ستتعامل المملكة مع التداعيات المتوقعة؟
- العلاقات الأردنية-السورية المستقبلية: ما هي السيناريوهات المحتملة لبناء علاقة جديدة؟
- ملف المعتقلين الأردنيين في سوريا: ما هي الاستراتيجيات المطلوبة لمعالجة هذا الملف؟
مما لا شك فيه أن التطورات السورية تستدعي رؤية واضحة واستراتيجية متماسكة من الجانب الأردني، خاصة في ظل التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية التي قد تنشأ نتيجة هذه التحولات.
أولًا: المخاطر على الأردن
الأردن، بحكم موقعه الجغرافي والسياسي، يجد نفسه في مواجهة تداعيات هذه التحولات. إسرائيل قد تتجه لتصفية الحسابات في الضفة الغربية بعد سوريا، وهو ما يضع الأردن أمام تحديات غير مسبوقة. في ظل غياب قوى إقليمية تُوازن إسرائيل، قد تجد المملكة نفسها وحيدة في مواجهة أي تداعيات لهذه الخطط، خاصة مع وجود إدارة أمريكية داعمة لإسرائيل بصورة غير مسبوقة.
في ظل التطورات الإقليمية المتسارعة، يواجه الأردن تحديات جسيمة على عدة أصعدة. المنطقة بأسرها تعيش حالة من الفوضى والتحولات المستمرة، إذ أن سوريا ولبنان غارقة في مشكلاتهما الداخلية، ومنطقة الخليج تسير وفق حسابات خاصة، مما يجعل الأردن في موقف حساس. في ظل هذا الوضع، يفتقر الأردن إلى الغطاء الدولي المطلوب في مقاومة التوسع الإسرائيلي. بالنظر إلى القوة العسكرية الإسرائيلية التي تزداد يومًا بعد يوم، ومع غياب أي طرف قادر على مواجهتها في المنطقة، إضافة إلى الدعم الأمريكي اللامحدود لها، يبدو أن الأردن قد يجد نفسه في موقف صعب إذا لم تتغير المعادلات الإقليمية.
التوسع الإسرائيلي على الأراضي السورية، بما في ذلك احتلال 14 كيلومترًا من الجولان، يشكل نقطة تحول مهمة في مجريات الأحداث. هناك مخاوف من أن هذا التوسع قد يمتد إلى مناطق أخرى، بما في ذلك الضفة الغربية وغور الأردن، في إطار خطة إسرائيلية لتغيير الخارطة السياسية في المنطقة.
وفي الوقت الذي تبدو فيه علاقات الأردن مع بعض القوى الإقليمية، مثل إيران وحزب الله، متوترة، فإن توازن القوى الذي كان قائمًا سابقًا بين إسرائيل وهذه القوى، بدأ في التفكك. هذا التفكك يفتح المجال لإسرائيل للانفراد في المنطقة، لا سيما أن هناك قوى مثل حزب الله وحماس في موقف ضعيف. الأزمة السورية كانت أحد العوامل التي أسهمت في هذا التفكك، حيث أن انهيار النظام السوري وتسارع الأحداث جعل كل شيء يبدو وكأنه تسارع غير متوقع، ولكن في الواقع هو جزء من مخطط طويل الأمد.
أما بالنسبة للأردن، فإن ما يواجهه الآن ليس مجرد مسألة عسكرية، بل هو تحدي سياسي يتطلب تنسيقًا دقيقًا مع القوى الإقليمية والدولية. الضغوط التي قد يتعرض لها الأردن في المستقبل القريب قد تكون غير مسبوقة، خاصة مع تزايد النفوذ الإسرائيلي وتغير موازين القوى في المنطقة. من المتوقع أن تشهد السنوات المقبلة تغييرات كبيرة قد تؤثر على الأردن بشكل مباشر، وهو ما يجعل المشهد السياسي في المنطقة في غاية التعقيد.
خروقات أمنية عديدة شهدتها الأردن نتيجة للوجود المتعدد للجماعات في المنطقة. فالنظام الذي تم تشكيله في بلاد الشام، خاصة، لم يكن بأقل من قوة في السوق، وهذا يفسر حالة الابتهاج التي صاحبت ما تعرض له السوريون. الشعب السوري شعب كريم وشجاع، كما هو الحال مع أي شعب عربي، وفيه الطيبون وغير الطيبين. لكن لا ينبغي أن يخفي الابتهاج الحقيقة.
إسرائيل، بدورها، استطاعت التمركز في مناطق مثل الجولان والقنيطرة، وهي مناطق تطل على فلسطين المحتلة ولها علاقة بأمن المنطقة. وقد دخلت القوات الإسرائيلية هذه المناطق وأعادت تموضعها هناك، بينما النظام السوري لم يصدر أي تصريح بهذا الشأن، وكأن هناك تفاهمات مسبقة مع إسرائيل أو أن النظام السوري لا يريد معارضة ما يحدث كي لا يؤثر ذلك على علاقاته الإقليمية والدولية.
أما في الأردن، فنحن بعيدون عن التحالفات السورية، وعلاقتنا مع إيران ليست على ما يرام أيضًا. على الرغم من ذلك، كان هناك تواصل سابق بين وزير الخارجية الأردني والرئيس السوري بشار الأسد قبل حرب 7 أكتوبر، حيث طلب الأخير دعم الأردن في رفع العقوبات الدولية على سوريا، مقابل وقف حرب المخدرات ضد الأردن.
هذا موضوع إقليمي ودولي معقد، وليس محصورًا في إطار العلاقات الثنائية فقط. خلال بداية الربيع العربي، أرسل الأردن الدكتور خالد الكركي، رئيس الديوان الملكي حينها، إلى بشار الأسد للتنسيق بشأن تقديم مساعدة في كيفية استيعاب الشارع السوري وقتها، عبر خطة إصلاحية، لكن الرد كان سلبيًا.
اليوم، من المفارقات السياسية أن سقوط خصمك السياسي قد يكون أكثر خطورة من سقوط حليفك. من يكشف ظهرك اليوم قد لا يكون عدوك التقليدي، بل قد يكون الحليف غير المتوقع. إسرائيل ليست بحاجة إلى ما هو أفضل من الوضع الراهن، لكننا بحاجة إلى الحذر في التعامل مع المتغيرات السياسية في المنطقة، لأن الوضع الحالي ليس كما يبدو.
اليوم، بعد أن انتهت الجبهات في غزة ولبنان وسوريا، حيث كانت تلك الجبهات تُسبب اضطرابًا لإسرائيل، بدأ الوضع يتغير بشكل ملحوظ. العراق، في ظل هذا السيناريو، قد يشهد تحركات غير متوقعة، حيث قد تلجأ الجماعات المسلحة، مثل داعش، إلى التصعيد المفاجئ في بغداد وغيرها من المدن العراقية، لخلق الفوضى الداخلية، بدلًا من المواجهة المباشرة.
لكن الأهم من ذلك هو الوضع الإقليمي للأردن، الذي يواجه تحديات معقدة، ليس فقط من الناحية العسكرية، ولكن أيضًا في ظل غياب الدعم العربي الحاسم. الأوضاع الاقتصادية في الداخل الأردني صعبة، والشعب منقسم حول قضايا مختلفة، بما في ذلك المواقف تجاه سوريا وغزة وحزب الله. كما أن موضوع اللاجئين السوريين يظل أحد القضايا الحساسة، حيث يظل الغموض يكتنف عودتهم، في ظل الوضع الأمني والاقتصادي المتقلب في سوريا.
بالنسبة لملف المخدرات، فإن الوضع في الحدود الأردنية السورية أصبح أكثر تعقيدًا بعد انسحاب الجيش السوري، مما سمح بزيادة في تهريب المخدرات، وهو ما يشكل تهديدًا كبيرًا للأردن. أما عن التفاهمات المحتملة مع النظام السوري، فهناك شكوك كثيرة حول قدرة الأردن على التعامل مع النظام الجديد في سوريا، خاصة في ظل التوترات الاجتماعية والسياسية التي لا تزال مستمرة.
من جانب آخر، التوترات في المنطقة أصبحت أكثر تعقيدًا بعد انهيار بعض الأنظمة، مثل سقوط الأسد في سوريا، وما تبع ذلك من تأثيرات على الأردن. الغريب في الأمر أن الشعب الأردني، الذي يكن مشاعر طيبة تجاه السوريين، قد يجد نفسه في موقف صعب في المستقبل بسبب تصاعد هذه التحديات.
الأردن اليوم بحاجة إلى تعزيز التماسك الداخلي، وتحقيق تسويات سياسية، كما يجب أن يكون هناك اهتمام كبير بالتحولات الإقليمية، خاصة في ظل تداخل الملفات السياسية والأمنية في المنطقة. ما يحدث في سوريا والعراق هو بمثابة إنذار للأردن لكي يكون على استعداد لمواجهة التحديات القادمة في ظل هذا الوضع المعقد.
ثانيًا: المناطق الحدودية بين سوريا والأردن: قائمة بالتهديدات
تعتبر مناطق الحدود بين سوريا والأردن غنية بالموارد، لكن العديد من المستشفيات والمرافق تم تدميرها بسبب الحرب. رغم هذه الظروف، يُحتفظ بهذه المناطق كشاهد على تاريخ طويل من النزاعات. وعندما نتحدث عن الجولان، نجد أن قوات الجيش السوري أصبحت بعيدة عن بوابة الجولان بحوالي 15 كم، وهذه المنطقة التي كانت بموجب اتفاقية 74 منطقة عازلة، قد سقطت نتيجة للتغيرات في النظام السوري. اليوم، تعتبر إسرائيل المنطقة العازلة بالكامل تحت سيطرتها، حيث تواصل التوسع في منطقة الجولان.
الجيش الإسرائيلي شهد أكبر تحشد عسكري في المنطقة منذ عام 73، وخاصة في منطقة القنيطرة وجبل الشيخ شمال الجولان. هذا التحشد لم يحدث في لبنان أو غزة، وهو يثير مخاوف من توغل إسرائيلي إضافي باتجاه الجنوب السوري، وقد يصل إلى درعا أو السويداء. هذه التحركات العسكرية تفتح المجال لمجموعة من السيناريوهات التي قد تكون تهديدًا رئيسيًا للأردن.
منذ 2014، تزايد وجود الميليشيات الإيرانية وحزب الله في جنوب سوريا، خاصة في درعا والسويداء، ما أسهم في تصاعد عمليات التهريب والمخدرات. الفصائل المعارضة في درعا تتعاون مع الأردن في تأمين الحدود، لكن وجود بعض الميليشيات الإيرانية قد يشكل تهديدًا محتملاً في المستقبل، رغم أن هذه الفصائل لا تشكل تهديدًا مباشرًا للأردن.
اليوم، يمكن القول بأن سوريا كقوة عسكرية قد انتهت. النظام السوري، رغم أنه كان يخدم مصالح إسرائيل، إلا أنه فقد قدراته العسكرية بشكل شبه كامل. ولا يبدو أن سوريا ستعود إلى قوتها السابقة في المستقبل القريب.
فيما يتعلق بالحدود الأردنية، من المحتمل أن تكون في حالة هدوء نسبي، لكن التهديدات ما زالت قائمة من ميليشيات إيرانية أو التوسع الإسرائيلي. أما بالنسبة للضفة الغربية، فالوضع أصبح أكثر تعقيدًا. هناك أكثر من 10,000 معتقل فلسطيني وأكثر من 2,500 شهيد في الضفة الغربية، والعدد في تزايد. هذه الظروف تشير إلى أن الحديث عن "دولة فلسطينية" قد لا يكون واقعًا في الوقت الحالي، ويبدو أن الحلول المستقبلية قد تكون محصورة في الفيدرالية أو الحكم الذاتي.
المنطقة العربية تشهد تحولات جيوسياسية بالغة الأهمية، تكشف عن تزايد التحديات الأمنية والاقتصادية، مع تغيرات حادة في البنى السياسية والعلاقات الإقليمية. إن قراءة الوضع الإقليمي تقتضي فهماً دقيقاً لمجموعة من العوامل المؤثرة التي تتداخل لتخلق مشهداً متشابكاً من الأزمات المتواصلة والتحديات المستقبلية.
ثالثًا: ما هو من مصلحة الأردن
إن السيناريو الأمثل في الأردن، في ظل الأوضاع الإقليمية والدولية الراهنة، يتمثل في تحقيق انتقال سياسي سلس في سوريا، يتوج بتشكيل حكومة تمثل كافة الأطياف السورية، مع الحفاظ على وحدة الجغرافيا والسعي إلى إغلاق أي احتمالات للسقوط في فوضى شاملة قد تزعزع استقرار المنطقة بأسرها، كما أنه يجب علينا أن نعي تمامًا حجم التغيير الجذري الذي شهدته سوريا، والذي جاء بعد سنوات طويلة من تفتيت النسيج الاجتماعي والتمزق الداخلي.
لا يمكن توقع أن تسير الأمور في سوريا بشكل سلس وبالقدر الذي يطمح إليه الجميع، حيث لا بد أن يصاحب هذا التغيير تداعيات واسعة النطاق قد تواجهها بعض الأطراف برفض أو اعتراض. فسوريا، منذ سنوات، تعيش في خضم حرب داخلية مدمرة، أسفرت عن فوضى شاملة، وانقسامات عميقة، وانشقاقات في هياكل الدولة، الأمر الذي يجعل من إعادة بناء الدولة الوطنية مسألة غاية في التعقيد والصعوبة.
إن حالة التوجس والخوف ستظل حاضرة في المشهد السوري، حيث ستظل العديد من الأطراف تبحث عن حلول تُشعرها بالأمان، وتحفظ توازنها الأمني والجغرافي، وتضمن استقرارها في مواجهة التحديات المستمرة، المشهد السوري اليوم يستدعي تحركًا حاسمًا على عدة أصعدة، وأن الدور المحوري للولايات المتحدة والمجتمع الدولي لا يزال بالغ الأهمية في تقديم ضمانات قوية تضمن مصالح جميع الأطراف.
الوضع الراهن لا يسمح لأي طرف بأن يفرض إرادته على الآخرين في سوريا، مشيرًا إلى أن الحلول السياسية يجب أن تكون توافقية وأن تتم بمشاركة الجميع، حفاظًا على وحدة سوريا واستقرار المنطقة ككل.
رابعًا: المشهد السوري بين تحديات التغيير ومخاوف التقسيم
يحمل الوضع السوري اليوم مزيجاً من المآسي والتحديات التي أثرت على مختلف جوانب الحياة، سواء في الإنسان أو في البنى التحتية. من خلال مقارنة بسيطة، يمكن فهم حجم التدهور الذي أصاب هذا البلد بعد أكثر من عقد على الأزمة. مشاهد الحزن والانكسار أصبحت سمة للمدن السورية، كما أن الظروف الاقتصادية زادت من معاناة المواطن.
الأوضاع المعيشية والأمنية:
- رواتب الجنود السوريين لم تعد تكفي لتأمين الحد الأدنى من الحياة الكريمة؛ فالجندي السوري يحصل على 20 دولاراً شهرياً، بينما نظيره في إدلب قد يصل راتبه إلى 1200 دولار، مما يعكس فجوة كبيرة تعكس أولويات القوى المسيطرة.
- الوضع الأمني في سوريا شهد تسليمات متسارعة للمناطق دون مواجهات تُذكر، مما يثير تساؤلات حول مدى التنسيق بين الأطراف المختلفة.
الدلالات السياسية والإعلامية:
- تغييرات في الأسماء والشخصيات القيادية، مثل أحمد الشرع (المعروف بأبو محمد الجودي)، تعكس محاولة للتأقلم مع الخطاب الدولي وتقديم صورة أكثر قبولاً.
- رسائل الطمأنينة الموجهة للمجتمع الدولي والشعب السوري على حد سواء، بما في ذلك التأكيد على شمولية الدولة السورية لكل الأطياف والطوائف.
الدور الإقليمي والدولي:
- مواقف القوى الكبرى، مثل إيران وروسيا، تعكس مزيجاً من الحذر والبراغماتية في التعامل مع الواقع الجديد.
- الدول العربية والغربية، رغم دعمها اللفظي لخيار الشعب السوري، تبدو مترددة في الانخراط بشكل مباشر في الوضع الراهن.
تحديات المستقبل:
السؤال الأكبر الذي يطرح نفسه: هل ستنجح سوريا في الحفاظ على وحدتها؟ أم أن السيناريوهات المستقبلية تحمل في طياتها خطر التقسيم؟ ما يحدث اليوم يعكس مرحلة انتقالية مليئة بالمتغيرات، لكن يبقى الأمل في رؤية دولة سورية موحدة تضم جميع الأطياف.
هذا المشهد يتطلب حواراً عقلانياً وتحليلاً معمقاً لفهم أبعاده، مع التركيز على كيفية تأثير هذه التطورات على الأمن والاستقرار في المنطقة بأكملها.
خامسًا: تحليل المشهد السوري وآفاق المستقبل: أبعاد سياسية وأمنية متعددة
تشهد الساحة السورية تطورات متسارعة ومعقدة تشير إلى تغيرات جوهرية في ملامح الصراع الحالي. الأحداث الأخيرة تكشف عن توافقات غير معلنة وخطط مرسومة بعناية تشارك فيها أطراف إقليمية ودولية. ولإلقاء الضوء على ما يجري، نبدأ بالإشارة إلى الوضع العام للبلاد.
منذ اندلاع الأزمة السورية، تغير المشهد بشكل كبير، مما أدى إلى تراجع واضح في البنية التحتية ومستوى الحياة اليومية. العاصمة دمشق، التي كانت رمز النشاط والحيوية، أصبحت تعيش أجواء حزينة تعكس آثار الصراع، حيث يعاني المواطنون من انقطاع الكهرباء بشكل متكرر، بينما لا يتجاوز راتب الجندي السوري 20 دولارًا شهريًا. على الجانب الآخر، يُقال إن رواتب المقاتلين في إدلب تصل إلى 1200 دولار شهريًا، ما يشير إلى فجوة كبيرة في الإمكانات بين الأطراف المتصارعة.
تشير التقارير الأخيرة إلى أن إسرائيل قامت مؤخرًا باحتلال مناطق جديدة في الجولان، بينما التقت قياداتها مع شخصيات درزية في سوريا، وسط حديث عن احتمال تشكيل قوة محلية لحماية تلك المناطق. هذا التطور يعكس استراتيجية إسرائيلية طويلة الأمد لتأمين حدودها من خلال دعم أطراف محلية.
من جهة أخرى، تلعب تركيا دورًا رئيسيًا في الشمال السوري، حيث دعمت تدريب نحو 200,000 مقاتل خلال السنوات الماضية. يظهر ذلك في تسهيل دخول المعارضة إلى مناطق استراتيجية مثل حماة وحلب. تصريحات الرئيس التركي أردوغان حول مستقبل دمشق تشير إلى وجود تفاهمات غير معلنة بين الأطراف المؤثرة.
على الصعيد الدولي، يبدو أن الولايات المتحدة وإسرائيل تعملان على إعادة تشكيل الأوضاع بما يخدم مصالحهما، سواء في سوريا أو لبنان. فعلى الرغم من الخطاب الإعلامي، تواصل واشنطن وتل أبيب تنفيذ استراتيجيات تهدف إلى منع وجود أي ميليشيات تشكل تهديدًا لإسرائيل، سواء في سوريا، اليمن، العراق، أو لبنان.
في الوقت نفسه، يظهر الموقف الروسي محايدًا بشكل متزايد، في ظل انشغاله بأزماته الداخلية والدولية. أما إيران، فقد بدا موقفها أكثر براغماتية مؤخرًا، حيث غيرت خطابها من "مجموعات إرهابية" إلى "مجموعات مسلحة"، مما يشير إلى محاولتها التكيف مع الوضع الراهن.
بالنسبة للأردن، فإن التطورات في سوريا تبعث على القلق بشكل متزايد، خاصة مع استمرار تهريب المخدرات والأسلحة عبر الحدود. ورغم المحاولات الأردنية المستمرة للتواصل مع القيادة السورية، إلا أن الاستجابة لم تكن بالمستوى المطلوب. يثير ذلك مخاوف من تأثيرات سلبية إضافية على أمن واستقرار الأردن، خاصة في ظل غياب حلول واضحة.
من التطورات اللافتة، إعادة صياغة الخطاب الإعلامي لبعض قادة المعارضة السورية، مثل أحمد الشرع، الذي يُروج له الآن كزعيم بديل قادر على توحيد الصفوف. هذه التحولات قد تكون جزءًا من خطة أكبر لإعادة رسم خريطة النفوذ السياسي في سوريا، مع تشكيل حكومة جديدة تسعى إلى تقديم صورة مختلفة عن السابق.
سادسًا: سوريا... دولة داخل ثلاث دول
بالنظر إلى التطورات الراهنة، تبدو سوريا في طريقها لأن تصبح دولة داخلها ثلاث دول: واحدة تسيطر عليها الحكومة المركزية، وأخرى تحت نفوذ الأكراد في الشمال، وثالثة تخص الدروز في الجنوب. هذه التقسيمات قد تكون مدعومة من أطراف إقليمية ودولية لتثبيت الأوضاع على الأرض بما يتوافق مع مصالحها.
الوضع الحالي في المنطقة يحمل العديد من التساؤلات والمخاوف، خاصة في ظل التطورات السريعة والمخططات التي يبدو أنها تسير باتجاهات واضحة ومدروسة. في ظل هذه المعطيات، نرى تغيّرات جذرية في موازين القوى، حيث باتت إسرائيل في موقع يُمكنها من فرض أجندتها على المنطقة دون وجود قوى تُوازنها كما كان في السابق.
سابقًا، كانت حماس وحزب الله، رغم الاختلافات والمواقف السلبية تجاههما، تساهمان في خلق توازن أمام إسرائيل. كذلك، النظام السوري برغم ديكتاتوريته وقمعه كان يُشكل نوعًا من التوازن في المنطقة، ولكن انهياره السريع كشف عن فراغ خطير. حزب الله، الذي كان يسيطر على الأرض بينما كانت روسيا تقدم الدعم الجوي، لم يعد له ذات الثقل على الأرض، مما ساهم في تسريع انهيار النظام السوري.
اليوم، إسرائيل تتحرك منفردة، بدءًا من غزة وصولًا إلى جنوب لبنان وسوريا، بل وتخطط للاستفادة من هذه اللحظة لفرض حقائق جديدة على الأرض. احتلالها لمساحات في الجولان دون رد فعل يُذكر هو دليل على هذا التحرك. السؤال الآن: ماذا بعد؟
سابعًا: أحجية الجولاني
إيران كانت تمثل تهديدًا رئيسيًا في المنطقة، لكن اللاعبين الرئيسيين في سوريا اليوم هم أمريكا، تركيا، إسرائيل وبعض الدول العربية، مع التنسيق المستمر بينها. روسيا وإيران، رغم دورهما الكبير، يتهمهما البعض بالتخاذل والتواطؤ. فقد قالت المتحدثة باسم الخارجية الروسية في تصريحات حديثة، رداً على سؤال البي بي سي، عن سبب عدم تحرك الجيش السوري، أن السبب هو أن "نحن فقط من نتحرك، بينما الآخرون لا يتحركون". من جهة أخرى، وزير الخارجية الإيراني أشار إلى أنه لا يجب اتهام المعارضين السوريين بالإرهاب.
كان هناك تنسيق قوي بين القيادات السياسية والأمنية والعسكرية في سوريا، وهذا ليس شيء جديد. حتى لو تحدثت مع شخص بسيط أو عجوز في الـ90 من عمره، سيؤكد لك استحالة ما يحدث الآن في سوريا. منذ نوفمبر 2020، بدأت عملية التحضير لهذه العمليات في تركيا، حيث تم التدريب والتسليح، وذلك بتنسيق مع أمريكا وإسرائيل، بل وشارك فيها دول مثل ألمانيا واليابان.
الجولاني، الذي كان في وقت ما هدفًا أمريكيًا بمكافأة قيمتها 10 مليون دولار لمن يقبض عليه، تحول اليوم إلى قائد عسكري. لقد بدأ يتحدث بلغة سياسية وعسكرية وعقلانية مختلفة تمامًا عما كان عليه في الماضي. هذه العمليات كانت تُخطط لها بشكل دقيق ومنظم من قبل قيادات سياسية وأمنية في المنطقة.
أما بالنسبة لسوريا، فإن الهدف الاستراتيجي هو جعلها دولة ضعيفة، ليس لديها جيش قوي مثل العراق وليبيا. إسرائيل وأمريكا تدفعان في هذا الاتجاه، حيث تعمل إسرائيل على ضرب مواقع عسكرية بحجة أنها مستودعات أسلحة، في الوقت الذي تتوسع فيه في الأراضي السورية، وخاصة في الجولان.
إسرائيل تسعى لإنشاء مناطق أمنية لها في الجولان، حيث تعيش هناك أقلية درزية وسورية، وتتمتع بحقوق إسرائيلية، مما يجعل هذه المنطقة استراتيجية لأمن إسرائيل. كما أن إسرائيل ترغب في إقامة دولة كردية في شمال شرق سوريا، وهو ما تدعمه أمريكا، في حين أن تركيا تقاوم هذه الخطط.
المؤشرات على الأرض تظهر أن هناك تحركات تنسيق بين قوات المعارضة وإسرائيل، ولا يوجد أي رد عسكري حقيقي على هذه التحركات من قبل الجيوش العربية. هذا يثير القلق بشأن مستقبل المنطقة وكيفية تفاعل القوى الدولية والإقليمية مع هذه التحديات.
ثامنًا: صراعات المنطقة وأقنعة المزايا
غزة، على سبيل المثال، تمر اليوم بمرحلة هي الأكثر تعقيدًا في تاريخها الحديث، بعدما تم تقسيمها إلى ثلاثة أجزاء بفعل الضغوط العسكرية الإسرائيلية المستمرة. ما كان يُعتبر يوماً ما قلب الصراع الفلسطيني أصبح الآن قطعة أرض مُجتزأة، تائهة بين الخنادق العسكرية والانقسام الداخلي. إسرائيل تسعى لتعزيز سيطرتها على هذه الأرض، مستغلة كل فرصة للضغط على القطاع الفلسطيني، مما يعمّق أزمة سكانه الذين يعيشون في ظروف غير إنسانية. غزة، الآن، تُغلق أبوابها ببطء، محاطة من كل اتجاه، ما يجعل أفق الحلول يبدو بعيد المنال.
في لبنان، أُضيفت ضغوط جديدة على الدولة التي تتعرض لانهيار اقتصادي وتهديدات إسرائيلية متجددة على حدودها الشمالية. التوغل الإسرائيلي في الجنوب اللبناني لم يعد مجرد استفزاز عسكري، بل أصبح جزءًا من استراتيجية تهدف إلى فرض الهيمنة الأمنية على الحدود، لتقوية موقف إسرائيل في مفاوضاتها الدولية، وعلى رأسها ملف المياه والغاز. هذا التوسع العسكري يرافقه تراجع حاد في النفوذ اللبناني داخل المنطقة، حتى في مواجهة تهديدات ميليشيات حزب الله التي لم تعد قادرة على التصدي لهذه التحركات العسكرية الإسرائيلية بفاعلية تذكر. هذا التطور يرسخ من تراجع قدرة لبنان على المناورة في ظل المعادلات الإقليمية المعقدة.
أما في العراق، فقد بدأت بوادر تحول استراتيجي تتضح في سياسات الحكومة العراقية. العراق، الذي كان يرزح تحت نفوذ إيراني مستمر منذ سنوات، بدأ في التقليل من هذا التأثير، خاصة مع تصاعد الوعي الداخلي بخطورة هذا النفوذ على السيادة الوطنية. هذا التوجه قد يمثل نقطة مفصلية في تاريخ العراق المعاصر، الذي شهد صراعات مع إيران في السابق، وسيتطلب تحركات دبلوماسية حذرة للتوفيق بين الانتماء العربي من جهة، والضغوط الإيرانية من جهة أخرى. العراق، إذًا، في مرحلة مفصلية يسعى خلالها إلى إعادة بناء هويته الوطنية وتوطيد علاقاته مع قوى إقليمية ودولية كتركيا والولايات المتحدة.
من جانب آخر، تشهد العلاقات الدولية تحولات جوهرية، حيث تبقى الولايات المتحدة اللاعب الرئيسي في تحريك الصراعات الكبرى على مستوى العالم. وفي الوقت الذي تحاول فيه القوى الكبرى مثل روسياوالصين تحدي الهيمنة الأمريكية، ما زال تأثير واشنطن في الشرق الأوسط مستمرًا، خاصة فيما يتعلق بالأمن والاستقرار في المنطقة. هذه الهيمنة الأمريكية تزداد وضوحًا مع الوجود العسكري الأمريكي المكثف في مناطق متفرقة من العالم، بما في ذلك في الشرق الأوسط، حيث تلعب واشنطن دورًا حاسمًا في محاربة الإرهاب وفي عمليات المفاوضات حول قضايا معقدة مثل القضية السورية.
أما في الأردن، فالأزمة السورية تركت آثارًا عميقة في البلاد، ليس فقط من خلال تدفق اللاجئين السوريين الذين تجاوزوا المليون نسمة، بل أيضًا من خلال الضغوط الاقتصادية التي تواجهها المملكة. الوضع المائي في الأردن هو أحد التحديات الأكثر إلحاحًا، حيث يسعى الأردن إلى إدارة الموارد المائية المحدودة في ظل التصعيد الإسرائيلي بشأن السيطرة على منابع المياه في المنطقة. النقص الحاد في المياه أصبح أزمة وطنية لا يمكن إغفالها، حيث تمثل المياه الشريان الحياتي للأردن. والتحدي الأكبر يكمن في مواجهة التصرفات الإسرائيلية التي تعمل على تقليل حصة الأردن من المياه المشتركة مثل مياه بحيرة طبريا، وتُضاف إلى هذه الأزمة الضغوط المترتبة على اللاجئين السوريين الذين يستهلكون جزءًا كبيرًا من الموارد المحدودة.
إن ما يجعل الوضع الأردني أكثر تعقيدًا هو أن الأردن، الذي لطالما كان معبرًا بين الشرق والغرب، يقع في قلب معادلة أمنية ذات بعد إقليمي ودولي معقد. فالعلاقات مع إسرائيل، رغم التعاون على مستويات معينة، تشهد توترات مستمرة بسبب السياسات الإسرائيلية في المناطق المحاذية. والأردن الذي يعاني من تحديات اجتماعية واقتصادية جمة، يواجه ضغوطًا أمنية موازية نتيجة للأزمات السياسية في الجوار. هناك حالة من اللايقين تحيط بمستقبل الدولة، مع ضغوط لتوفير حلول مبتكرة للأزمة الاقتصادية واللاجئين وتحديات المياه.
إجمالاً، تقدم هذه التغيرات في الشرق الأوسط لوحة معقدة من التحولات الإقليمية التي تمثل تحديات ضخمة أمام الدول المعنية. إن القراءة الدقيقة للواقع السياسي والإستراتيجي تشير إلى أن المنطقة تسير نحو فترة من التوترات المستمرة، مع تزايد الضغوط على الحكومات لتأمين استقرارها الداخلي، ومع ذلك، تظل القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، العنصر الأساسي في تحديد المسارات المستقبلية للمنطقة.
تاسعًا: مساومات برسم التنازل
في عام 1970، مثلاً، كانت هناك توترات بين الأردن وسوريا، والتي ارتبطت بمواقف سياسية واهتمامات إقليمية تتراوح بين النزاع والتعاون. في تلك الفترة، كان حافظ الأسد، الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع، يختلف سياسيًا عن القائد السوري آنذاك، نور الدين الأتاسي، مما يعكس تنوعًا في السياسة السورية في ذلك الحين. كذلك، يشير المتحدث إلى الدور الذي لعبته سوريا في لبنان، عندما تدخلت كقوات "الردع العربي" عام 1976، في خطوة كانت تحظى بتوافق عربي، بالرغم من غياب التوافق الأردني-السوري المباشر في تلك الفترة.
الحديث لا يتوقف عند هذا الحد، بل يتطرق إلى أبعاد الصراع الداخلي في سوريا في السبعينيات والثمانينيات، خاصة العلاقة المتوترة بين النظام السوري والإخوان المسلمين، التي أدت إلى صراعات دامية في مدن مثل حماة وحلب، وتحديدًا الهجوم العسكري في 1982. في هذا السياق، يظهر أن الجناحين الحموي والحلبي للإخوان المسلمين شكلا دعامتين متنافستين في تاريخ الجماعة، وكل منهما حمل رؤى وتوجهات فكرية تباينت عبر الزمن. هذه النزاعات الداخلية في سوريا أدت إلى تفرقات عميقة، كان لها تبعات على مستوى الهوية السياسية السورية وتأثيراتها على المنطقة.
هذه القضايا يجب أن تُطرح مجددًا في سياق فهم العلاقة بين الهوية والمكونات الاجتماعية في سوريا، خاصة في ظل الصراع المستمر الذي يضع هذه المسائل على طاولة النقاش مجددًا. ويُظهر كيف أن الطائفية والمذهبية أصبحت أداة سياسية في الفترة الأخيرة، ما يثير تساؤلات حول مستقبل النظام السوري وكيفية إدارته لعملية التغيير الاجتماعي والسياسي في المرحلة القادمة.
التطرق إلى دور النظام السوري كقوة إقليمية كان ولا يزال محط نقاش مهم، فهناك تحولات كبيرة في السياسة الإقليمية، خاصة فيما يتعلق بالعلاقات السورية-الأمريكية والسورية-الإسرائيلية في فترات مختلفة. كما تم الربط بين هذه العلاقات والتحولات الإقليمية الكبرى مثل كامب ديفيد، حيث كان النظام السوري بمثابة لاعب رئيسي في المشهد العربي، في حين بقيت سياسته الإقليمية متأثرة بمكونات داخلية ومعادلات خارجية معقدة.
وفيما يتعلق بالمراحل الأخيرة، يتابع المتحدث تطور العلاقات بين التيارات الإسلامية وحلفائها الإقليميين، مشيرًا إلى تحولات مفاجئة في المزاج السياسي داخل حركات مثل حماس وحزب الله. يشير إلى تصاعد المذهبية والتمحور حول قضايا الطائفية في المنطقة، في وقت أصبح فيه حزب الله وحركة حماس يشكلان جزءًا من الائتلافات الإقليمية التي قد تغير موازين القوى في المستقبل. وتزداد المخاوف حول التحول إلى نموذج محاصصة طائفية مشابه لما حدث في العراق بعد عام 2003، مما يعكس قلقًا من تأثيرات هذه الديناميكيات على مستقبل سوريا ودورها الإقليمي.
التحليل الذي يقدم في هذا السياق يعكس تعقيدات الهوية السياسية في المنطقة، خصوصًا في سوريا التي تمثل نقطة تقاطع لقوى متعددة تسعى كل منها لتحقيق مصالحها السياسية والجيو-استراتيجية. ويطرح التساؤل حول مدى قدرة سوريا على تجنب الأخطاء الماضية وإعادة تشكيل هويتها في ظل المتغيرات الداخلية والخارجية المتسارعة.
في الجولان، تطرح تساؤلات حول احتمالات وجود مساومات بين النظام السوري والكيان الإسرائيلي. تساؤلات تتعلق بالبيانات التي تصدرها بعض الأطراف الإقليمية، مثل الأردن، تجاه الوضع هناك، وتثير القلق حول تحول السياسات الإقليمية وتأثيرها على توازن القوى في المنطقة. هذه التحولات تفتح المجال لمراجعة المواقف العربية من القضية السورية، ومدى انعكاس ذلك على الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط.
في العراق، تتعمق الانقسامات بين القوى الشيعية السياسية، حيث يشهد الائتلافان الرئيسيان "ائتلاف القانون" و"ائتلاف النصر" صراعات داخلية تُضعف من قدرة الحكومة على اتخاذ قرارات قوية. رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، رغم سعيه لتحقيق أهداف سياسية، يجد نفسه محاطًا بقيود قوى سياسية شيعية ثقيلة الوزن، أبرزها هادي العامري ونوري المالكي. هذا يعكس واقعًا من التقيد السياسي والضعف المؤسسي الذي يواجهه العراق في الوقت الراهن.
على صعيد سوريا، يجد النظام نفسه في مرحلة حساسة بعد سنوات من الحرب. تسهم التطورات في غزة ولبنان في إعادة تشكيل التحالفات في المنطقة، بما في ذلك الدور الإيراني وحزب الله. التراجع الإيراني في سوريا يبدو أنه جزء من استراتيجية أوسع لإضعاف النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، وهو ما يترافق مع تحديات جديدة لوجود إيران العسكري في العراق وسوريا.
تاريخيًا، تواجه الأنظمة السياسية في المنطقة، بما في ذلك العراق وسوريا، تحديات كبيرة تتعلق بكيفية إدارة التنوع الاجتماعي والسياسي. فالعراق، الذي شهد تهميشًا طويلًا للمكونات الشيعية، يواجه اليوم صراعات قد تعمق من هذه الانقسامات، مما يجعل الحاجة إلى العدالة الاجتماعية أكثر إلحاحًا. فيما يتعلق بسوريا، فإن التقلبات السياسية الأخيرة تثير تساؤلات حول قدرة الفصائل المعارضة على إدارة الدولة بشكل فعال. هذا يبرز التحديات التي تواجهها سوريا في ظل غياب الاستقرار الداخلي والخارجي.
في النهاية، تُظهر هذه القضايا أن المنطقة تشهد مرحلة من التحولات الكبرى التي قد تساهم في إعادة تشكيل العلاقات الإقليمية والدولية. بينما تسعى القوى الإقليمية إلى تحقيق مصالحها، يظل السؤال الأكثر إلحاحًا حول قدرة القوى الفاعلة في سوريا والعراق على إدارة الأزمات وتحقيق الاستقرار في ظل هذه التحولات.
عاشرًا: الشحن الطائفي والحريق القادم
إن واقعنا العربي اليوم يواجه تحديات كبيرة نتيجة لتسارع الشحن الطائفي والتحولات السياسية التي تتم في سياق غير واعٍ. وفي هذا السياق، يظهر أن هناك أزمة عميقة في العقل الباطن العربي تتعلق بالاستجابة السريعة للمحفزات الطائفية. ففي بعض الأوساط، قد نجد أن بعض الأشخاص من ذوي التخصصات الدينية يتحدثون عن أحداث المنطقة وكأنها استدعاء لتاريخ طويل من الصراعات والفتن الكبرى، مما يعكس هشاشة الوضع النفسي والعقلي للمنطقة العربية.
تتجلى هذه الأزمة بوضوح في غياب مشروع عربي موحد يعيد صياغة العلاقة بين الدول العربية ويخرجها من دائرة التفاعل السلبي مع مشاريع القوى الأخرى في العالم. كما أن واقع المنطقة اليوم يضعها تحت تأثير عصر جديد، صهيوني الطابع، وهو ما يفسر الترتيبات الجارية في سوريا والعراق على ضوء هذه التغيرات. وفي العراق، تضاف التوترات الطائفية إلى المشهد، خاصة مع ظهور قوى مثل تيار الصدر الذي يعارض النفوذ الإيراني.
وفي ظل هذه التحولات، تبرز الحاجة الماسة لمقاربة جديدة من إيران. يجب على طهران أن تعيد تقييم سياستها في المنطقة وأن تستأنف التفاهمات مع القوى الغربية، في سبيل تجنب المزيد من الحروب والصراعات التي تستنزف المنطقة. وعلى مستوى سوريا، تبدو احتمالات التصعيد الداخلي أقل احتمالاً، خاصة بعد انسجام الفصائل المعارضة ضد النظام السوري، مما يمهد الطريق لمرحلة انتقالية قد تكون أكثر هدوءًا.
أما في الأردن، فإن الوضع الجغرافي والديموغرافي يجعله في قلب الصراعات الإقليمية. ولكن، في ظل هذه الأوضاع، يبدو أن الأردن نجح في الحفاظ على استقرار نسبي، خاصة بعد تراجع التواجد الإيراني في المنطقة الحدودية. وفيما يتعلق بمستقبل اللاجئين السوريين، ينبغي للأردن أن يشجع على عودتهم إلى وطنهم مع ضمان الاستقرار والعدالة.
ومع ذلك، يبقى أن الأردن بحاجة إلى التركيز أكثر على قضاياه الداخلية في ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهه، وعلى رأسها كيفية التعامل مع التطورات في الضفة الغربية وفلسطين. إذ أن استمرار الانشغال بالمشكلات الإقليمية قد يؤثر على الوضع الداخلي، مما يتطلب تفعيل مشروع التحديث السياسي وإصلاحات اقتصادية تساهم في تهدئة المزاج الشعبي وتعزيز الاستقرار الاجتماعي.
فيما يتعلق بالتيار الإسلامي الأردني، يُثمن المتحدث دوره باعتباره تيار الاعتدال القادر على استيعاب التوترات الطائفية ومنع تفاقمها كما حدث في سوريا. ويُشير إلى أن هذا التيار لا يمثل فقط المكون الفلسطيني بل يمتد إلى مناطق أخرى في المملكة، مما يعكس تنوعه في تمثيل الشرائح الشعبية ويزيد من تأثيره في السياسة الأردنية.
على الصعيد الاقتصادي، يُتناول تأثير الأزمة السورية على الاقتصاد الأردني، مشيرًا إلى أن تكلفة استضافة اللاجئين السوريين فاقت 44 مليار دولار، بينما لم تتجاوز المساعدات الدولية 10 مليار دولار. كما يُستعرض التشابه بين التحديات الاقتصادية التي قد يواجهها الأردن في حال تفاقم الأزمات في ليبيا.
يتطرق الحديث أيضًا إلى التأثيرات الأمنية والجيوسياسية في غزة والضفة الغربية. في هذا السياق، يُعتبر ما يحدث في غزة نقطة تحوّل في المشهد الجيوسياسي للمنطقة. يُحذر المتحدث من محاولات إسرائيل لتطبيق قوانينها في الضفة الغربية، مما سيزيد من تعقيد العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية ويُفاقم الأوضاع في الأراضي المحتلة.
فيما يتعلق بالأمن في سوريا ولبنان، يُلفت المتحدث إلى تهديدات الأمن الناجمة عن وجود مقاتلين أردنيين في صفوف جبهة النصرة بسوريا، مما يثير تساؤلات حول إمكانية حدوث تغييرات في السياسة الداخلية للأردن في المستقبل. كما يُحذّر من احتمالية اندلاع حرب طائفية في لبنان في المستقبل القريب، مما يزيد من تعقيد الوضع الأمني في المنطقة.
الحادي عشر: توصيات الجلسة
1. إعادة تقييم دور حزب البعث: يجب على الفاعلين السياسيين السوريين إعادة النظر في دور حزب البعث في المستقبل السياسي للبلاد. إن الحزب، الذي كان يُعتبر القوة المهيمنة في النظام السوري، أصبح اليوم في حالة ضعف داخلي، مما يفتح المجال لبدائل سياسية أكثر توافقًا مع تطلعات الشعب السوري. من الضروري أن يتم دراسة سبل دمج هذا الحزب ضمن الترتيبات السياسية المستقبلية أو استبعاده بشكل تدريجي.
2. توحيد منصات المعارضة: الانقسامات بين منصات المعارضة السورية (الإسلامية والعلمانية) تحد من قدرتها على التفاوض مع النظام السوري بشكل فعال. وبالتالي، يجب توجيه الجهود نحو توحيد هذه القوى المعارضة تحت منصة سياسية واحدة، مما يعزز موقفها في المفاوضات المستقبلية ويزيد من فعاليتها في تحقيق التغيير السياسي المنشود.
3. التفاعل الإقليمي والدولي: الأزمة السورية متشابكة مع الأوضاع في الدول المجاورة مثل العراق ولبنان وغزة، لذلك من الضروري أن تتفاعل القوى الإقليمية الكبرى (تركيا، إيران، والسعودية) بشكل أكبر في الحوار السياسي حول مستقبل سوريا. يجب العمل على تجنب التصعيد العسكري والتركيز على الحلول السلمية التي تضمن استقرار المنطقة ككل.
4. مكافحة الجماعات المتشددة: من الضروري تكثيف التعاون بين القوى الإقليمية والدولية لمكافحة الجماعات المتشددة التي تهدد استقرار سوريا والمنطقة. يتطلب ذلك استراتيجيات أمنية شاملة، تشمل التنسيق الاستخباراتي، ومكافحة تمويل الإرهاب، والتعامل مع الجماعات المتطرفة بفاعلية لضمان القضاء على تهديداتها.
5. الاستفادة من نموذج أفغانستان المعدل: بينما قدم النموذج الأفغاني دروسًا قاسية حول تحولات السلطة، فإن تطبيق نموذج سياسي يشمل مزيجًا من الإسلام المعتدل مع الليبرالية في سوريا قد يوفر فرصة لتحقيق التقدم. من الضروري أن يتم تكييف هذا النموذج ليأخذ بعين الاعتبار السياق السوري الخاص وضرورة تفعيل قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
6. الدور الحاسم للتفاهمات الإقليمية: لا يمكن حل الأزمة السورية بمعزل عن التفاهمات الإقليمية. يجب أن تشارك القوى الكبرى في المنطقة، مثل السعودية وتركيا وقطر، بشكل مكثف في التنسيق مع المجتمع الدولي لضمان استقرار المنطقة. يمكن للتعاون الإقليمي أن يسهم في تحسين التوازنات السياسية والأمنية بين الأطراف المختلفة.
7. التعامل مع التنوع السياسي والثقافي: يجب التأكيد على ضرورة الحفاظ على التنوع السياسي والثقافي في سوريا، وهو ما يمثل جوهر الحل السياسي المستدام. لا يجب فرض نماذج سياسية أحادية، بل يجب دعم نظام شامل يعترف بالتنوع الديني والسياسي. الحفاظ على هذا التنوع سيساعد في تحقيق استقرار سياسي دائم.
8. وضع خطة مرحلية شاملة: من أجل إنهاء النزاع السوري بشكل دائم، يجب وضع خطة مرحلية شاملة تتضمن وقفًا لإطلاق النار، ومفاوضات سياسية شاملة بين جميع الأطراف، وتنظيم انتخابات ديمقراطية تُعبر عن تطلعات الشعب السوري. يجب أن تكون هذه الخطة واضحة وشفافة، مع آليات مراقبة دولية تضمن تحقيق توازن بين جميع الأطراف المشاركة في العملية السياسية.
9. توفير الدعم الدولي والإقليمي لحل مستدام: من أجل تحقيق حل مستدام للأزمة السورية، يجب على المجتمع الدولي توفير الدعم السياسي والاقتصادي اللازم للدول التي تعاني من تداعيات النزاع. يجب أن يتضمن هذا الدعم تحفيز إعادة الإعمار وتهيئة البيئة الأمنية والسياسية لتطبيق الحلول التي تم التوصل إليها في المفاوضات.
صادر عن مؤسسة مسارات الأردنية
12/12/2024