“مسارات” و”الثقافة” تعقدان ندوة حول الإدارة الاقتصادية للدولة الأردنية

تحدّث نائب رئيس الوزراء الأسبق، الدكتور جواد العناني، عن الإدارة الاقتصادية للدولة الأردنية على مدار المئة عام الأولى من عمر الدولة، وذلك خلال ندوة عقدتها مؤسسة مسارات الأردنية للتنمية والتطوير، بالتعاون مع وزارة الثقافة.

وجاءت الندوة ضمن مشروع الشراكة بين المؤسسة والوزارة “استنطاق مئوية الدولة وتحقيبها على عشرة عقود”، بهدف إقامة ندوات تثقيفية تُغطي الحقب العشر للمئوية الأولى للدولة، من خلال اختيار أبرز الشخصيات والأحداث التي عايشت تلك الحقب أو وثّقت تاريخها.

وقال العناني، إنه وفي بدايات تأسيس الدولة الأردنية، كان الناس يعملون بالزراعة، وبخاصة زراعة الحبوب، مبينا أن السكان هم الذين حددوا طبيعة الاقتصاد الأردني في ذلك الوقت.

وأوضح، أن الناس كانوا ينتظرون موسم الحصاد، حين يأتي التجار من فلسطين والشام والدول المجاورة كي يتبادلوا البضائع، فالتجار القادمون من الدول الأخرى يشترون القمح والشعير والحبوب الأخرى من المزارعين، وفي المقابل، يبيعونهم حاجاتهم الأساسية؛ مثل “البواريد”.

وأضاف العناني، أن المعاملات كانت جميعها عبارة عن مقايضة، بمعنى أن النقد لم يكن وسيلة تداول، بل كان قليلا وشحيحا، ومَن يملك قطعة نقد كان يملك “شيئا كثيرا”، وهذا أثّر بدرجةٍ كبيرة على ما يسمى “ملكية الأراضي”.

وتابع: عندما بدأت الدولة تتشكل أصبح للأرض قيمة، وذلك عندما بدأ رسم الحدود الجغرافية للدولة وتقسيم البلديات وتقديم الخدمات للمناطق وتعبيد الشوارع.

وبين العناني، أن أكثر ما رفع أسعار الأراضي في الأردن هي الطرق؛ لأن وجود الطريق في منطقةٍ ما يعني سهولة الوصول إليها؛ لذلك مع إنشاء الطريق كانت تأتي الخدمات الأخرى تاريخيا؛ مثل خدمات الكهرباء والهاتف، وهذا يرفع قيمة الأرض لأنها تصبح قابلةً للاستعمال.

وأشار إلى أنه ونتيجةً لذلك؛ كانت البنى التحتية التي تُزَوَّد بها الخارطة الأردنية (أي الأرض الأردنية) تجعل قيمة الأرض أعلى مما كانت عليه.

ولفت العناني إلى أن الحياة كانت بسيطة، فلم يكن هناك سياسة نقدية؛ لأن مجموع العملات الأجنبية في الأردن كان عبارة عن 3 ملايين جنيه إسترليني، ثم وصل إلى 6 ملايين في آواخر أربعينيات القرن الماضي.

وأوضح، أن الجنيهات الإسترلينية هي التي كانت تُحدد كمية النقود الموجودة في الأردن؛ أي أنه لا يجوز طباعة دنانير بمقدار يفوق الاحتياطي الإسترليني المتوفر، علما أن الاحتياطي كان محفوظا في بنك إنجلترا وليس الأردن؛ لأن الدولة كانت جزءا من منطقة الإسترليني.

وتابع العناني: في ضوء عدم وجود سياسة نقدية، كانت البنوك ما تزال ضعيفة وغير موجودة، والناس لا يتعاملون مع المصارف؛ نظرا لأنهم لا يملكون فائضا من النقد ليضعوه في البنوك.

وأضاف، أن عملية الاقتراض من البنوك والتعامل مع البنوك كانت ضعيفة جدا؛ لذلك لم يكن هناك سياسة نقدية، كما أن مفهوم الموازنة كان مقتصرا على النفقات والإيرادات، ولم لكن هناك فائض ولا عجز في الموازنة.

وأكد العناني، أن الحكومة كانت دقيقة جدا في المحاسبة، حتى أن الملك أو أمير البلاد في ذلك الوقت كان يتقدم بطلب ليأخذ سُلفة بموافقة مجلس الوزراء للسفر إلى دولة خارج الأردن، وبعد عودته كان يُقدم فواتير بما دفعه وأنفقه.

أما عن تشكّل السوق أو ما يسمى بـ”اقتصاد السوق” في الأردن، فكان أمرا تدريجيا، وفق العناني الذي أوضح أنه عندما بدأ حجم السكان يزيد والنشاطات السكانية تزداد، بدأ يتشكل اقتصاد السوق.

وأشار إلى أن أول دفعة وصلت من الشركس عام 1877 هم الشابسوغ، وفي ذلك الوقت اختاروا أرضا يمكنهم زراعة القمح فيها، وتخصصوا بهذا المجال؛ لأن زراعة القمح “كانت صَنْعَتهم في بلادهم (القفقاس)”.

وذكر العناني، أنه جرت محاولات لأخذ القمح وتسبّبت بحروب بين العشائر ومنتجي القمح في العشرينات والثلاثينيات من القرن الماضي، وهنا كانت بداية الجيش، فقد كان ضد الغزوات التي حدثت بين العشائر، وهنا تكوّن الجيش الأردني.

وتابع: ثم أتى ما يسمّى الجيش العشائري والذي اقتصر في عهد كلوب باشا في الثلاثينيات على أبناء عشائر البادية، فلم يكن للفلاحين نصيب في هذا الجيش؛ لذا سمي بجيش البادية.

وبين العناني، أن العشائر حُددت بنحو 8 عشائر، وكان أبناؤهم ينضمّون للجيش، وبعد الحرب العالمية الثانية، بدأ التوسع في الجيش حتى وصل إلى 6 آلاف جندي، وبدأ أفراد العشائر الأخرى التي تعمل بالزراعة بالانضمام للجيش.

وأوضح، أنه وبعد ذلك، أصبحت تأتي الهجرات من الشام والأردن وفلسطين، وبدأ يظهر لدينا أن الأردن الذي كان يُعتبر فقيرا بالموارد الاقتصادية أصبح ملاذا مهما جدا؛ لأن الدول الأخرى لم تكن تلاحق الهاربين منها في الأردن.

وبين العناني أنه ولذلك؛ بدأ التنوع السكاني، ثم أتى البهائيون من إيران، وعملوا بزراعة البرتقال، وأتى الأرمن الذين عملوا بصناعة الأحذية والميكانيك والتصوير، فلم يكن هناك أي مصور غير أرمني حتى منتصف الخمسينيات، ما يشير إلى وجود تخصص تابع لطبيعة الأقلية التي سكنت الأردن في ذلك الوقت.

وأضاف: فيما بعد، شهدنا تغيرا ملحوظا في عام 1948 وهي الهجرة القسريّة بحكم الاحتلال وقدوم أعداد كبيرة من الفلسطينيين، وهنا بدأ التحدي، فكيف لدولة عدد سكانها 400 ألف نسمة أن تستوعب (100 – 150) ألف لاجئ.

وتابع العناني: هنا جاء التحدي وبقي يلازمنا باستمرار بعد ذلك، لا سيما في حرب عام 1967، وحرب لبنان الأهلية، والحرب العراقية، وحرب الخليج الأولى، وما جاء في الربيع العربي من هجرات يمنية وليبية وعراقية وسورية بأعداد كبيرة جدا.

وأشار إلى أن الأردن شهد تغيرا ديموغرافيا مستمرا، صاحبه تغير جغرافي لكنه ليس قويا كالديموغرافي، فقد تشكّل الأردن بإمارة شرق الأردن، ثم عام 1948 ضُمت الضفتان عمليا لكن لم يُتخذ القرار رسميا إلا بعد موافقة البرلمان عليه في عام 1950؛ لذلك اتّسعت مساحة الأرض الأردنية، وزادت بنحو 6 آلاف كيلو متر مربع.

وقال العناني، إنه في عام 1967، انخفضت مساحة الأردن، وهكذا كانت الدولة تكبر وتصغر جغرافيا؛ فتشكّلت التحديات للأردن بحكم جغرافيته، وأصبحت لديه حدود تجمعه مع السعودية والعراق وسورية وفلسطين، وبذلك أصبح الأردن قطعة أرض مهمة جغرافيا ولها مركز جغرافي متميز.

وأضاف، أن المناطق المحيطة بالأردن كانت متوترة ومع الربيع العربي زاد هذا التوتر، ولكن في البداية كان الجميع ينظر للأردن على أنه ساحة خلفية له، يستطيع أن يأخذه؛ لذلك في الخمسينيات بعد حرب فلسطين، بدأت تظهر انقلابات سياسية في العالم العربي؛ مثل انقلاب سورية عام 1949.

وتابع العناني: عندما دخلت سورية ومصر في حالة وحدة كان لا بد للأردن أن ينضم للعراق، حيث سميت المملكة العربية المتحدة، بحيث يتبادل الملكان الحكم (الملك قيصر الثاني والملك الحسين بن طلال) وكذلك الحكومتان، لكن هذه المملكة لم يُكتب لها أن تعيش، بسبب الانقلاب العراقي الذي حدث عام 1958، وتحول العراق من بلد صديق إلى مناكف للأردن، وكذلك مصر وسورية.

وأشار إلى أنه في عام 1958 اضطر الأردن للاستعانة بالجيش السعودي لحمايته من محاولات الانقلاب، وحينما كان الأردن قلقا سياسيا كان لا بد أن يؤثر عليه ذلك من الناحية الاقتصادية، لأن الأردن مضطر لحماية حدوده وواقعه، لا سيما وأن إيراداته ووارداته محدودة.

وبين العناني، أن 80% من غذاء الأردن مستورد؛ لذا كان يجب أن يضمن الأردن الأساسيات- على الأقل-؛ لذا كان لا بد أن يكون هناك سياسة براغماتيكية، لا تغير الواقع لأنها لا تستطيع لكنها تجد أفضل الوسائل لتتعايش معه بما يحفظ كرامة الأردن وحدوده، وهذا ما حدث.

وتابع، أن الأردن واجه تحديات كبيرة، أهمها محاولة الاعتماد على الذات قدر الإمكان، وإيجاد ظهير عربي باستمرار في سياسته، وظهير أجنبي في الوقت ذاته.

وأضاف العناني: عند الدخول في ستينيات القرن الماضي، تحوّل الأردن من منطقة الإسترليني إلى حوزة الدولار (منطقة الدولار)، وصار الدولار يشكل الرصيد الأكبر في أرصدة الأردن الأجنبية.

ولفت إلى أنه عند ظهور النفط عام 1973، حدث تغيير كبير في الأردن؛ لأن الأردنيين كانوا أقدر الناس على الاستفادة من هذه الفرصة، بمعنى أن الأردن دولة ليست نفطية لكنها أصبحت شبه نفطية بحكم موقعها.

وبين العناني، أنه بذلك أصبح لدى الأردن فرص وأموال، ولم يشهد الأردن غلاء في تاريخه أكثر مما حصل خلال السنوات من 1974 إلى 1983، فقد كان المعدل السنوي لنمو الأسعار 17%، لكن في المقابل، كانت فرص العمل متاحة.

ولفت إلى أن الموظفين كانوا يخرجون من القطاع الحكومي إلى الخاص بسبب ارتفاع الرواتب في القطاع الخاص، ما اضطر الحكومة إلى رفع الرواتب أكثر من مرة حفاظا على العمال، ثم تم إعداد قانون الضمان الاجتماعي للحفاظ على العمال الموجودين في الأردن، وأصبح ساريا في عام 1978.

وأكد العناني، أن الأردن كان حساسا لما يجري حوله ويتأثر بذلك و”يفقر ويغنى به”، مشيرا إلى أن اللبنانيين جاؤوا بعد منتصف السبعينيات للأردن، وتجارتهم كانت تعتمد على الهاتف ووسائل الاتصال الحديثة.

وذكر، أن الأردن أسّس البنى التحتية في الثمانينيات، كما أنشأت الحكومة المؤسسة الاستهلاكية المدنية عام 1976 ووزارة التموين عام 1974 لتنظيم الأسعار وتحسين أوضاع المواطنين.

ورأى العناني، أن وزارة التموين لم تخدم الاقتصاد الأردني بل عطّلت عملية الإنتاج، وكان ينبغي ربطها بوزارة الزراعة حتى يعتمد الناس على ما يُنتج محليا لا على ما يُستورد.

وبين، أن الأردن وصل إلى مرحلة الخيارات فيها صعبة والاقتصاد فيها أصبح معقدا ولم يعد سهلا، فهو يتطلب سياسة مالية معقدة، وسياسة نقدية معقدة، وسياسة تنموية معقدة، وسياسة استثمارية معقدة.

وتابع العناني: من هنا، أصبحت إدارة الاقتصاد عملية فنية، وانتقل الأردن من إدارة الكتل إلى إدارة التغيير، أي الاختيار من بين البدائل المتاحة والخيارات الصعبة، والتفضيل بين القرارات.

وأكد، أنه لا يوجد دليل إحصائي على أن الأردن يعتمد على المساعدات، فموازنة الحكومة للسنة الحالية 10 مليارات دينار، 90% منها مُتأتّية من الضرائب التي يدفعها الشعب.

وأضاف العناني، أن الضرائب منها ما هو مباشر وغير مباشر، وهناك رسوم يدفعها المواطنون مقابل الخدمات الحكومية، إلى جانب العقوبات والغرامات، وجميعها تُشكل نحو 90% من الموازنة، وبالتالي فإن الشعب يدفع 90% من الموازنة والأردن لا يعتمد على المساعدات التي تُشكل 10% من إجمالي الموازنة.

وقال، “نحن قطعنا في المئة سنة الأولى شوطا كبيرا، والآن علينا أن نحافظ على هذا الأمر، وأن ننتقل إلى دولة مدنية ومتقدمة، خصوصا في التكنولوجيا”.

وحضر الندوة عدد من الشابّات والشباب المهتمين بالشأن السياسي والتاريخي والثقافي.