>

غنيمات يكتب: ما حدث في سوريا

يثير المشهد السوري العديد من التساؤلات الجوهرية حول التطورات الأخيرة. وأبرز هذه الأسئلة يتمحور حول ما حدث في إدلب ودخول "هيئة تحرير الشام" بشكل سلس وميسر، مقابل انسحاب الجيش السوري بسرعة وبدون أي مواجهة تُذكر. هذا السيناريو يذكّر بسقوط بغداد عندما انهار جيش صدام حسين في مشهد غير متوقع. السؤال الأهم هنا هو سبب التوافق على اختيار أبو محمد الجولاني كبديل لبشار الأسد. يبدو أن الجولاني، بهندامه الجديد وصورته المختلفة، قد خُصص لهذا الدور، ولكن لماذا؟ ولماذا طُرحت فكرة بقاء رئيس حكومة بشار الأسد، محمد الجلالي ، لفترة انتقالية قصيرة؟ وما الذي يجعل الجولاني اليوم يبدو وكأنه صاحب السلطة المطلقة في سوريا؟ هذه التطورات تثير الشكوك حول شكل السلطة ومن يملك القرار النهائي بشأن المستقبل السياسي للبلاد. نقطة مثيرة أخرى تتعلق بسلوك المعارضة المسلحة التي أطاحت ببشار الأسد. على عكس ما حدث في العراق وليبيا، يبدو أن المعارضة تجنبت تكرار أخطاء الماضي، حيث كان إسقاط الدولة بالكامل في تلك الحالات سبباً في انعدام الاستقرار لفترات طويلة. هذا السلوك الجديد يعكس، ربما، استفادة المعارضة من دروس التاريخ، لتفادي انهيار المؤسسات السورية، وهو ما قد يساهم في تقليل تداعيات سقوط النظام على الدولة ككل. من أبرز التساؤلات المطروحة: كيف سيكون انتقال السلطة؟ الجولاني اختار محمد البشير، ذو التوجه الإسلامي، لرئاسة الحكومة، ولكن ما يثير القلق هو كيفية ضمان انتقال سلس في ظل تعقيدات النظام السوري. سوريا تمتلك أكثر من 16 جهازاً أمنياً، وهي أجهزة متداخلة النفوذ والسلطة. التعامل مع هذه المؤسسات ومع رموز النظام السابق سيكون التحدي الأكبر. لذلك، علينا أن نتابع عن كثب تعامل هذه الأجهزة مع الحكومة الجديدة وما قد يرافق ذلك من تحديات وصراعات على النفوذ. الخطاب السياسي الذي يتبناه الجولاني يبدو في ظاهره تطمينياً، لكن أغلب الظن أن هذا الخطاب جاء بقرار من الأطراف الدولية والإقليمية التي تشرف على الملف السوري. الغاية من هذا الخطاب تهدئة الأطراف الإقليمية، خاصةً أن تداعيات أي تصعيد في سوريا ستؤثر بشكل مباشر على منطقة الشرق الأوسط بأكملها، بما في ذلك لبنان وغزة. وعن الأطراف في القصة فهم: تركيا إذ تعد تركيا لاعباً أساسياً في التطورات السورية. يتحدث البعض عن أردوغان كأنه رئيس غير معلن لسوريا وتركيا معاً، بالنظر إلى دعمه للجولاني عسكرياً وسياسياً. فشل محاولات لقاء أردوغان والأسد قد يعكس سوء تقدير الأسد لما يجري في المنطقة، وهو ما أدى إلى سقوطه بهذا الشكل السريع، كما أن الدعم الأمريكي للجولاني يأتي في سياق الإطاحة ببشار الأسد، ما يعكس توافقاً بين المصالح الأمريكية والتركية، خاصةً فيما يتعلق بملف الأكراد. الطرف الآخر في هذه القصة هو إيران، التي باتت تخسر الكثير مما استثمرته في سوريا. فقد قدّمت إيران دعماً كبيراً للنظام السوري، دافعت عن الأسد، ووفّرت له الموارد اللازمة، واستفادت من وجودها في سوريا لتحقيق مصالحها الإقليمية. ومع ذلك، فإن الخسائر المتتالية التي تكبدتها جعلتها تواجه تراجعاً في نفوذها، حيث بدأت تفقد أحد أوجه حضورها في المنطقة، لا سيما بعد تراجع تأثيرها في لبنان وما شهدته علاقاتها مع حركة حماس في مراحل سابقة وما زال مستمراً. الطرف الثالث المعني بالأزمة السورية هو روسيا، التي بدورها باتت في موقف ضعيف. فمع انشغالها بحربها في أوكرانيا، التي تمثل ساحتها الرئيسية ومعركتها الأهم، لم تستطع توفير الحماية الكافية للنظام السوري. ونتيجة لذلك، تراجعت أهمية سوريا في سلم أولويات روسيا، رغم محاولتها الحفاظ على نفوذها العسكري عبر قاعدتها الاستراتيجية هناك. أما النقطة الأخرى التي تستوقفنا فتتعلق بالتغيرات التي طرأت على التنظيمات المسلحة، وعلى رأسها "هيئة تحرير الشام". فقد لاحظ الجميع التحوّل الكبير الذي طرأ على هذه الهيئة، التي تُعد التنظيم الأكبر الذي يضم تحت مظلته عدداً من الفصائل. تمثل هذا التغير بشكل أساسي في شخصية زعيمها، أبو محمد الجولاني، الذي انتقل من خطاب التطرف إلى نهج البراغماتية، ومن إنكار مفهوم الدولة إلى تبنّيه والعمل على تعزيز مؤسساتها. حتى مظهره وخطابه وسلوكه شهدت تغيراً جذرياً، ما يعكس انتقال الهيئة من مجرد مليشيا إلى كيان أكثر تنظيماً يشبه الجيش. يبدو أن هذا التحوّل يأتي بدعم واضح من تركيا والولايات المتحدة، حيث تهدف هذه الدول إلى إعادة تشكيل صورة "هيئة تحرير الشام" من مليشيا مسلحة إلى جيش منظّم قد يلعب دوراً رئيسياً في إدارة سوريا خلال المرحلة المقبلة. أما الجولاني نفسه، فهو شخصية تثير العديد من التساؤلات. فقد مرّ بتحولات أيديولوجية كبيرة، من انتمائه لتنظيم القاعدة إلى جبهة النصرة، ثم داعش، وأخيراً "هيئة تحرير الشام". هذا التحوّل في شخصيته من قائد متطرف لا يعترف بالدولة إلى رجل سياسي متسامح يعيّن رئيس وزراء ويتحدث عن بناء مؤسسات الدولة، يثير شكوكاً حول دوافعه الحقيقية. يُضاف إلى ذلك اللقاء الذي أجرته معه شبكة CNN، والذي شكّل نقطة تحول مهمة. فقد قدمته الشبكة، وهي واحدة من أبرز القنوات الإخبارية الأمريكية، كرجل دولة بارز، متجاهلة كونه مدرجاً على قوائم الإرهاب الأمريكية، مع مكافأة مالية تبلغ عشرة ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى القبض عليه. السؤال الآخر المتعلق بالمشهد السوري يتناول مسألة وجود 126 تنظيمًا مسلحًا، مما يثير تساؤلات متعددة. أبرز هذه التساؤلات يتعلق بمستقبل هذه التنظيمات: هل ستقبل جميعها بالجولاني قائدًا أوحدًا؟ هل ستلقي أسلحتها وتخضع لقيادته؟ أم ستعيد توجيه أسلحتها نحو أهداف أخرى، ربما لمواجهة تنظيمات انفصالية تهدد دولًا مجاورة، مثل تركيا؟ عند الحديث عن الأطراف التي لعبت دورًا محوريًا في هذا السياق، يبرز دور الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا بوصفهما لاعبين رئيسيين، إلى جانب إسرائيل التي تعد طرفًا مؤثرًا آخر. ومن هنا نستذكر خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وخرائطه التي عرضها في الأمم المتحدة تحت عنوان "مشروع الشرق الأوسط الجديد"، وهو ما يندرج ضمن أسئلة أخرى تنتظر إجابات واضحة. أما على صعيد الأحداث السياسية، فإن من الملاحظ أن سقوط نظام الأسد تزامن مع نهاية عهد الديمقراطيين في البيت الأبيض، حيث سعى هؤلاء لتسجيل هذا الإنجاز قبل مغادرتهم السلطة وتسليمها للجمهوريين، وهو ما يثير تساؤلات عن علاقة هذا التوقيت بالتحولات الجارية في سوريا. بالانتقال إلى الاستنتاجات المستخلصة من قراءة وتحليل التطورات الأخيرة، يمكن ملاحظة أن وصول "هيئة تحرير الشام" إلى مواقع النفوذ، وتحولها إلى جيش منظّم، يشير إلى أنها قد تضطلع بدور محوري خلال المرحلة المقبلة. استنتاج آخر يرتبط بإعادة تبييض صورة هذه التنظيمات وإعادة إنتاجها لتلعب أدوارًا جديدة في المنطقة. يبدو أن هذا التوجه يأتي بعد إخفاق مشاريع الإسلاميين المعتدلين في كل من مصر وتونس، وكأن هناك من يسعى لتقديم هذه التنظيمات الإرهابية المُهذَّبة كبديل قادر على تولي السلطة في المستقبل القريب. من الاستنتاجات المهمة أيضًا أن إيران وروسيا فشلتا في توفير الحماية الكافية للنظام السوري. كما أن إيران، بعد أن فقدت نفوذها في غزة ولبنان، تواجه اليوم تراجعًا واضحًا في سوريا، وهو ما يعكس ضعفها في المنطقة. أما روسيا، فقد أظهرت أنها غير قادرة على تقديم الدعم الكامل للنظام السوري كما فعلت سابقًا، نتيجة انشغالها بحربها في أوكرانيا وتراجع قدراتها العسكرية. استنتاج آخر يتصل بالدور الوظيفي الذي لعبته إيران في الشرق الأوسط خلال العقود الماضية. يبدو أن هذا الدور قد انتهى أو أنه في طور التراجع، مما يشير إلى نهاية حقبة توسع إيران ونفوذها الإقليمي. المرحلة المقبلة قد تشهد تحولًا في موازين القوى، مع دخول إيران مرحلة جديدة تتسم بتراجع نفوذها وقوتها الإقليمية. الاستنتاج الأخير يتعلق بالقوة التي ستبقى مهيمنة في المنطقة لتحقيق التوازن مع الولايات المتحدة بوصفها القطب الأوحد. في العقود الماضية، كان هذا التوازن يتحقق من خلال دور كل من إيران وإسرائيل. أما اليوم، فيبدو أن البحث جارٍ عن إطار جديد أو قوة بديلة، قد تكون في صورة إسلام متطرف تم تهذيبه وتشذيبه وإعادة تبييض صورته. في النهاية، تبقى هذه الاستنتاجات والتساؤلات مطروحة بانتظار إجابات خلال المرحلة المقبلة.