تطورات الوضع في سوريا.. التوقيت والتوقعات
شهدنا خلال الأيام القليلة الماضية تطورات سريعة، شملت دخول هذه المجموعات إلى حلب وريفها والسيطرة على مطارات ومواقع استراتيجية. هذا الواقع يفرض علينا التفكير بعمق في تأثير هذه التحركات على الأردن، وما قد يكون مطلوبًا من الدولة الأردنية للتعامل مع هذه المستجدات في المشهد السوري.
النقاش امتد ليشمل عدة محاور رئيسية:
1. انعكاسات هذا التطور على المملكة الأردنية الهاشمية، خاصة مع استضافة الأردن لما يقارب مليون لاجئ سوري.
2. الجهود المبذولة لإعادة اللاجئين طوعًا إلى وطنهم، والتي، حتى الآن، لم تحقق أعدادًا كبيرة تُذكر.
3. السيناريوهات المحتملة لما هو قادم وكيفية التعامل معها.
الساحة السورية: مشهد معقد دوليًا وإقليميًا
- القوى الدولية الكبرى، مثل الولايات المتحدة وروسيا، لها وجود وتأثير مباشر في سوريا.
- القوى الإقليمية كإيران وتركيا وإسرائيل تلعب دورًا محوريًا ومتنازعًا في مناطق متعددة.
- الفاعلون من غير الدول مثل "داعش"، "هيئة تحرير الشام"، وقوى كردية أخرى تشكل عناصر فاعلة على الأرض.
تعقيد المشهد السوري
1. التداخل الدولي:
oالولايات المتحدة تدير عملياتها في شمال شرق سوريا بالشراكة مع قوات سوريا الديمقراطية، وهو تحالف عسكري محلي يتمتع بدعم لوجستي واستخباراتي كبير.
oروسيا، كحليف استراتيجي للنظام السوري، تدير قواعد عسكرية في حميميم وطرطوس، وتسعى لتعزيز نفوذها في المشهد الإقليمي من خلال دعم النظام عسكريًا ودبلوماسيًا.
2. الأطراف الإقليمية:
oإيران:تعمل على ترسيخ وجود عسكري طويل الأمد في سوريا، عبر تأسيس قواعد ودعم مليشيات محلية موالية لها.
oتركيا:تنخرط بدورها عبر دعم قوى المعارضة المسلحة، خاصة في الشمال السوري، مع التركيز على حماية مصالحها الأمنية تجاه المجموعات الكردية المسلحة.
oإسرائيل:تتدخل عسكريًا بانتظام لتعطيل إنشاء قواعد إيرانية دائمة ومنع نقل الأسلحة إلى حزب الله.
3. الفاعلون من غير الدول:
oداعش:رغم تراجع سيطرته الميدانية، لا يزال نشطًا، خاصة في مناطق البادية وريف دير الزور، حيث زادت عملياته بنسبة كبيرة وفق تقارير دولية، مما يعكس قدرته على التكيف والاستمرار كتهديد أمني خطير.
oهيئة تحرير الشام:تُعد أكبر الفاعلين غير الدوليين في شمال غرب سوريا، حيث تسيطر على إدلب والمناطق المحيطة بها. ورغم إعلانها الانفصال عن القاعدة، إلا أنها ما زالت تصنَّف كمنظمة إرهابية دوليًا بسبب أيديولوجيتها وأفعالها. تمتلك الهيئة بنية عسكرية متطورة، بما في ذلك القدرة على تصنيع أسلحة متقدمة وطائرات مسيّرة.
أولًا: ما يجدر بالأردن فعله في ظل تحديات مؤرقة
هذا المشهد المعقد يضع الأردن أمام تحديات أمنية واستراتيجية كبيرة، خاصة في ظل وجود مليون لاجئ سوري داخل أراضيه، وتأثير ذلك على الموارد والبنية التحتية. كما أن تزايد نشاط المجموعات المسلحة، وخصوصًا تلك القريبة من الحدود الأردنية، يشكل تهديدًا مباشرًا لأمن واستقرار المملكة.
السؤال الملح الآن هو:
- كيف يمكن للأردن صياغة سياسة خارجية ودفاعية مرنة ومتكاملة تتعامل مع هذه المعطيات؟
- ما هي الأدوات المتاحة لتعزيز أمن الحدود وتقليل التداعيات المباشرة وغير المباشرة لهذا الصراع؟
- كيف يمكن التنسيق مع الأطراف الدولية والإقليمية لإيجاد حلول مستدامة، مع ضمان حماية المصالح الوطنية الأردنية؟
للإجابة عن الأسئلة، خرج المشاركون بما يلي:
آلية صياغة سياسة متكاملة، من خلال الاعتماد على الدبلوماسية الوقائية: تكثيف التواصل مع الأطراف الفاعلة، الإقليمية والدولية، لضمان احتواء تداعيات الصراعات على الأراضي السورية، مع التأكيد على دعم وحدة سوريا واستقرارها.
إلى جانب التأهب الدفاعي: بناء استراتيجية دفاعية مرنة تدمج بين الحلول التقنية، مثل استخدام أنظمة مراقبة حديثة، وتعزيز القوات المسلحة الأردنية للتصدي لأي اختراق محتمل للحدود.
التكنولوجيا المتقدمة: الاستثمار في أنظمة المراقبة الحدودية باستخدام الطائرات بدون طيار والرادارات المتطورة لضمان مراقبة دقيقة على طول الحدود الأردنية-السورية.
إلى جانب إحياء القنوات الدبلوماسية المتعددة الأطراف: دعم مبادرات أممية وإقليمية تجمع الأطراف المعنية بالصراع السوري، مع التشديد على أهمية إشراك الأردن كفاعل رئيسي نظرًا لتأثيره الجغرافي والسياسي، وتوظيف الدبلوماسية متعددة المسارات من خلال اعتماد مقاربة دبلوماسية تنخرط في المحافل الدولية والإقليمية، مع الحفاظ على مقعد متقدم في أي مفاوضات متعلقة بالشأن السوري. يُمكن للأردن قيادة مبادرة إقليمية تهدف إلى إنشاء إطار تفاوضي يجمع الدول الفاعلة لتحقيق الاستقرار.
وهذا يسلط الضوء على ما تشهده الساحة الدولية منذ سنوات من تحول جذري مع صعود قوى جديدة وانحسار الهيمنة الأحادية التي كانت تمثلها الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة. تُعد الصين وروسيا أبرز المنافسين للولايات المتحدة، حيث تعمل كل منهما على تشكيل محاور نفوذ عبر أدوات عسكرية واقتصادية، كما هو واضح في الحرب الأوكرانية وصراع النفوذ في آسيا وإفريقيا. هذا المشهد العالمي الجديد لم يترك تأثيره فقط على المنافسة بين القوى الكبرى، بل أعاد رسم أولويات الدول، بما فيها الولايات المتحدة، التي تراجعت عن سياسات "الحروب الأبدية" التي هيمنت على استراتيجيتها بعد 11 سبتمبر 2001.
في استراتيجية الدفاع الوطني الأمريكية لعام 2018، حددت واشنطن أولوياتها الجديدة التي تركز على مواجهة الصين وروسيا، مع وضع إيران وتركيا كأهداف إقليمية ثانوية. هذا التحول انعكس على سياساتها في الشرق الأوسط، حيث شهدنا انسحابات عسكرية من سوريا والعراق وتقليص الوجود العسكري في عدة مناطق، بالتزامن مع توجيه موارد أكبر نحو آسيا والمحيطين الهندي والهادئ، ليذهب محللون إلى أن محادثات تركيا مع الرئيس الروسي بوتين، وطلب تركيا تعديل اتفاقية ضنا، مشيرة إلى ضرورة تأمين مساحة تمتد 30 كيلومترًا على طول حدودها. يعكس رؤية تركيا في تعزيز سيطرتها على المنطقة، وهو ما قد يشير إلى تحول في السياسات الإقليمية.
ثانيًا: سوريا ومعادلة الخريطة الجديدة
منذ عام 2013، تسيطر هيئة تحرير الشام (المعروفة سابقًا بجبهة النصرة) على إدلب، لترسخ وجودها كأكبر قوة مسلحة غير حكومية في المنطقة. تمكنت الهيئة من القضاء على العديد من الفصائل المنافسة، وتحولت إلى قوة منظمة تتمتع بقدرات عسكرية متقدمة. تحتضن الهيئة حوالي 20,000 مقاتل، يتم تصنيفهم ضمن النخبة، نتيجة تدريبهم العالي وتنظيمهم المنضبط.
ما يحدث في سوريا اليوم يمثل مشهدًا معقدًا يعكس طبيعة الصراع الإقليمي والدولي. الحديث عن تغيير جذري في المنطقة أو توازنات القوى ليس بالأمر البسيط. لقد سمعنا تصريحات كثيرة من قادة مثل نتنياهو حينما أعلن أنه سيغير الشرق الأوسط، ولكن هل تحقق ذلك؟ وحتى الولايات المتحدة، رغم عظمتها، عندما احتلت العراق، لم تستطع فرض نظام جديد وفق رؤيتها.
الاعتقاد بأن هذه الأحداث ستغير موقع إيران وقوتها الجيوسياسية في المنطقة هو ضرب من الوهم. إيران تمتلك نفوذًا عميقًا وقدرات كبيرة في بلاد الشام، تمتد من طهران إلى بغداد ودمشق وصولًا إلى بيروت. الحديث عن إنهاء هذا النفوذ يتجاهل الواقع القائم.
العالم العربي، للأسف، منطقة مستجيبة وليست فاعلة. الدراسات السياسية والجيوسياسية تصف العالم العربي بأنه منطقة اختراق، تسودها التدخلات الدولية والإقليمية وحتى من قبل الفاعلين من غير الدول، القوة الدولية واضحة المعالم، فالولايات المتحدة تحتفظ بعشرات الآلاف من الجنود وقواعد عسكرية، بينما الوجود الروسي محدود للغاية.
ثالثًا: النظام السوري... حالته ومصيره
حالة النظام السوري ومستقبله، أثارت جدلًا بين الحاضرين، فمنهم من قال إنه لا يبدو أن النظام السوري سينهار قريبًا، ولا أن التقسيم الكامل سيحدث، رغم وجود بعض المؤشرات على انحسار سيطرة النظام على بعض المناطق. القوى الفاعلة، سواء الولايات المتحدة، تركيا، أو حتى قوات "قسد"، تسعى لتعزيز نفوذها، ولكن ضمن حدود معينة، فيما أشار بعضهم إلى أن الرئيس بشار الأسد، رغم المتغيرات المتسارعة على الأرض، اختار أن يتمسك بموقفه الرافض للتكيف مع هذه التحولات. قرر الاستمرار في اعتبار تركيا قوة احتلال، ووصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأنه شخصية مراوغة لا يمكن الوثوق بها، وهناك من يرى بأن ما يحدث في سوريا هو الأهم، إذ إن تطورات الوضع هناك ستؤثر بشكل كبير على المنطقة بأسرها. ما بعد سوريا، ستكون التداعيات أخطر بكثير. الموضوع الأكثر إلحاحًا هو أن إسرائيل لم تعد تشعر بالأمان كما كانت في السابق، في حين أن الولايات المتحدة بصدد الانسحاب من المنطقة، مما يترك فراغًا استراتيجيًا.
المشروع الوحيد الذي يبدو قابلاً للتنفيذ الآن هو فصل تركيا عن إيران وحزب الله في منطقة بلاد الشام، وهو مشروع قد يكون تنفيذه ممكنًا في ضوء المعطيات الحالية.
رابعًا: قيام الدولة الكردية بمباركة الولايات المتحدة
ما يثير الاستغراب في هذا السياق هو تقبل الولايات المتحدة وإسرائيل الآن لفكرة إقامة دولة كردية، وهو تحول كبير في السياسات الإقليمية. المناطق التي تسيطر عليها قوات "قسد" قد أصبحت مقبولة من الجانبين الأمريكي والإسرائيلي، وهو ما كان غير متصور في السابق، كما كان الحال مع مسعود البرزاني في فترة سابقة.
إن هذه التطورات تشير إلى إعادة تشكيل لموازين القوى في المنطقة، وستحمل تداعيات كبيرة في المستقبل القريب..
تشير بعض التحليلات إلى أن هذا الموقف قد يكون نتيجة ضغوط إيرانية على النظام السوري، فيما يُقال إن روسيا كانت تميل إلى دفع الأسد نحو لقاء مع الرئيس أردوغان، في محاولة لإيجاد تفاهمات أو تسوية بين الدولتين.
خامسًا: تقطيع أذرع إيران
الواضح أن إيران تواجه ضغوطًا متزايدة من الولايات المتحدة وإسرائيل، مما يجعلها أكثر ضعفًا في الإقليم. يأتي هذا في سياق خطة معلنة تهدف إلى "تقطيع الأذرع" تمهيدًا للانقضاض على الرأس، أي النظام الإيراني.
هذه الخطة ليست سرية، بل يتم الحديث عنها علنًا. المحور الرئيسي فيها هو تدمير أذرع إيران في المنطقة، بدءًا بحزب الله، مرورًا بسوريا، ووصولًا إلى أهداف أخرى.
خلال الفترات التي شهدت هدوءًا نسبيًا في القتال، استثمرت الهيئة في تطوير قدراتها الذاتية بشكل لافت. فإلى جانب ترسانة الأسلحة التقليدية، قامت بتطوير منشآت عسكرية شملت مصانع لإنتاج الطائرات المسيرة والأسلحة المتقدمة، وهو تطور يشير إلى تحول استراتيجي في طبيعة العمليات العسكرية التي تعتمد على التقنية والتكتيك الحديث. بالإضافة إلى ذلك، تعتمد الهيئة على تكوين "مجموعات انتحارية" تُستخدم كأداة ضغط ومناورة، إلى جانب تحالفاتها مع تنظيمات أجنبية مثل الحزب الإسلامي التركستاني.
العلاقة بين هيئة تحرير الشام وتركيا تعد إحدى النقاط الأكثر تعقيدًا في المشهد السوري. تركيا، التي تسعى للحفاظ على نفوذها في إدلب عبر "الجيش الوطني السوري"، لا تبدو في موقع يتيح لها فرض سيطرة كاملة على الهيئة. ورغم وجود شراكات غير معلنة أحيانًا، تحتفظ الهيئة بأجندة مستقلة تتناقض في بعض الأحيان مع المصالح التركية. هذه المعادلة الملتبسة تُبرز تحديًا مزدوجًا لأنقرة، التي تحاول تحقيق توازن بين احتواء الهيئة وبين تقويض نفوذها، مع الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في الشمال السوري.
إذا سارت الولايات المتحدة في هذا السيناريو، فإنها ستكون مضطرة للتعاون مع تركيا من أجل إنهاء مشروع "الكيان" الذي قد يهدد مصالح الأطراف المعنية. ومن هنا، نحن أمام سيناريوهات خطيرة قد تطرأ في هذا السياق.
من المهم أن يكون الفاعلون الداخليون على دراية بتلك المتغيرات والتطورات، حيث قد تخرج الأمور عن مسارها المتوقع. كما أن الوضع في سوريا قد يشهد انهيارًا محتملًا إذا استمرت التوترات، مما يستدعي الحذر الشديد.
سادسًا: داعش والسيناريو الحتميّ
إضافة إلى ذلك، هناك خطر حقيقي يتمثل في تنظيم داعش المنتشر في الصحراء، والذي يمتلك حوالي 100,000 مقاتل. هؤلاء يهاجمون القوات بشكل مستمر ويقطعون طرق الإمداد. إذا تم قطع الطريق الدولي (M4 وM5)، فإن العودة إلى حلب ستكون مستحيلة إلا عبر الطريق القديم الذي يمر عبر الصحراء.
هذا الوضع يجعل الأمور أكثر تعقيدًا، إذ أن تنظيم "قسد" الكردي، الذي يسيطر على مناطق واسعة في شمال سوريا، يضم حوالي 60,000 مقاتل، بالإضافة إلى 12,000 مقاتل أجنبي معتقلين في سجونهم. إذا تمكن هؤلاء من الفرار، فإن الوضع سيصبح أكثر تعقيدًا، ما يفتح المجال لسيناريوهات خطيرة للغاية.
التحليلات تشير إلى ضرورة مراقبة هذه التطورات بعناية، حيث إن أي تغيير في الوضع قد يؤدي إلى تأثيرات استراتيجية هائلة.
أثر هذا التحول في مواقف الفاعلين على الأرض السورية، حيث وجد النظام السوري نفسه في مواجهة خيارات معقدة نتيجة تضاؤل الدعم الروسي بسبب الانشغال بالحرب في أوكرانيا. في المقابل، ملأت إيران الفراغ من خلال تعزيز وجودها العسكري والسياسي في سوريا، مستغلة ضعف النظام وعزلته.
على الجانب الآخر، شهدت البلاد تصاعدًا في نشاط المليشيات المدعومة من إيران، خاصة بعد هجمات السابع من أكتوبر 2023. المليشيات، التي نفذت أكثر من 70 هجومًا على القوات الأمريكية، دفعت الولايات المتحدة إلى تنفيذ ضربات جوية مركزة، بينما واصلت إسرائيل قصف المواقع الإيرانية. التحركات العسكرية هذه لا تعكس فقط صراع النفوذ بين القوى الدولية والإقليمية، بل تؤكد أيضًا أن سوريا أصبحت ساحة لتصفية الحسابات.
سابعًا: المسارات والانتكاسات وغياب الأفق السياسي
على الصعيد السياسي، تعكس التطورات الأخيرة في سوريا فشل المسارين الدبلوماسيين الأساسيين لحل الأزمة:
1. مسار جنيف (2254): الذي يركز على عملية انتقال سياسي تحت رعاية الأمم المتحدة.
2. مسار أستانا: الذي تدعمه روسيا وتركيا وإيران، ويهدف إلى تثبيت مناطق خفض التصعيد وتحقيق استقرار نسبي.
كلا المسارين تعرضا لانتكاسات بسبب تعنت الأطراف وعدم القدرة على تحقيق توافق دولي أو إقليمي حاسم، مما زاد من تعقيد الأزمة وأطال أمد الصراع.
الأحداث الأخيرة تُبرز هشاشة الوضع في سوريا. انهيار القوى المحلية، مثل هيئة تحرير الشام أو النظام السوري، لا يُعزى فقط إلى الضعف الداخلي، بل يعكس حالة "السيولة" في التوازنات الدولية والإقليمية. تظل سوريا نقطة التقاء للصراعات التي تغذيها التناقضات بين الأطراف المختلفة، من تركيا إلى إيران، ومن روسيا إلى الولايات المتحدة.
ما يزيد المشهد تعقيدًا هو غياب أفق سياسي واضح، حيث تتداخل العمليات العسكرية مع التحركات الدبلوماسية في سياق يبدو أبطأ من تسارع الأحداث على الأرض. في النهاية، قد لا تكون سوريا مجرد أزمة قائمة بذاتها، بل نموذجًا لحالة من الفوضى العالمية التي تعيد تشكيل معالم النظام الدولي الجديد.
توجه الأنظار نحو إيران وتصاعد الغضب الأمريكي والإسرائيلي تجاهها إثر ما عُرف بـ"طوفان الأقصى"، مما أسفر عن بدء سلسلة جهود تهدف إلى إضعاف النفوذ الإيراني في المنطقة. هذه الجهود، التي تبدو أنها وصلت إلى مستوى متقدم، أضعفت إيران عسكريًا وسياسيًا بشكل ملموس، بدءًا من تأثيرها في غزة وحزب الله جنوب لبنان، وصولًا إلى تعرضها لسبع وأربعين ضربة استهدفت مواقع استراتيجية.
تجلى ذلك في مساعٍ من الأطراف المعادية لإيران لاستغلال ضعفها الواضح والفراغ الناتج. على سبيل المثال، تشير تقارير إلى استعدادات مستمرة منذ ستة أشهر، وقد تدخلت تركيا في وقت سابق لمنعها، خشيةً من نتائج غير محمودة. ويبدو أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لم يكن يهدف إلى تغييرات جذرية في النظام السوري، بل سعى لإيجاد صيغة مشتركة مع الرئيس السوري بشار الأسد، محذرًا إياه من هشاشة الوضع الإيراني وعدم قدرة الروس على تقديم الدعم اللازم.
لتكون آراء بعض المشاركين متفقة بأن أمام هذا المشهد، يبدو أن سوريا تقف بين خيارين: إما أن الأسد رفض التحولات الجارية على الأرض وتمسك بموقفه العدائي تجاه تركيا، أو أنه تعرض لضغوط إيرانية دفعته لرفض التفاهم مع أردوغان، رغم أن الروس كانوا يميلون لدعم التقارب بين الجانبين.
وأن الخطة الأمريكية الإسرائيلية في هذا السياق واضحة وصريحة، وهي تقويض النفوذ الإيراني من خلال استهداف أذرعها في المنطقة، بدءًا بحزب الله، مرورًا بسوريا والعراق، ووصولًا إلى اليمن. هذه الاستراتيجية تعتمد على تدمير القواعد الميدانية التي استندت إليها إيران لتعزيز نفوذها الإقليمي.
ثامنًا: ماذا قدمت المقاومة وحماس؟
القوة التي تجلّت في الأشهر الأولى من حرب غزة كانت، دون شك، مدعومة بشكل كبير من إيران. فقد أثبتت هذه الحرب أن الأسلحة التي استخدمتها فصائل المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها حركتا حماس والجهاد الإسلامي، كانت جزءًا من ترسانة إيرانية نقلت بوسائل مختلفة، واستُخدمت لتحقيق إنجازات ميدانية ملحوظة. إضافة إلى ذلك، تلقى المقاتلون الفلسطينيون تدريبات عسكرية متقدمة على أيدي خبراء إيرانيين، وهي حقيقة يصعب إنكارها. لم تعلن حركة حماس أو قياداتها أي نفي لهذا الأمر، بل على العكس، بدا أن هناك إدراكًا واعترافًا ضمنيًا بالعلاقة الوثيقة بين الطرفين. فزيارة القيادي إسماعيل هنية إلى طهران، التي جاءت في سياق رسمي، أكدت طبيعة هذه العلاقة التي لا تقتصر فقط على الدعم المادي والعسكري، وإنما تمتد لتشمل أبعادًا سياسية وأمنية عالية المستوى، لكن ما ذهب إليه آخرون مختلف، فهم رأوا أنه لا يمكن اختزال حركة حماس ضمن مشروع "ولاية الفقيه"، الذي تسعى إيران إلى ترسيخه في المنطقة كجزء من رؤيتها الاستراتيجية للتوسع الإقليمي. حماس، كحركة مقاومة وطنية فلسطينية ذات جذور سنية، تظل مرتبطة بقضيتها الوطنية وتسعى لتحقيق أهدافها بعيدًا عن هيمنة الأجندة الإيرانية. لكن هذا لا ينفي أن إيران تنظر إلى حماس كجزء من أدواتها الاستراتيجية في المنطقة، لا سيما في ظل تراجع الخيارات الأخرى أمامها لتوسيع نفوذها داخل الدول العربية ذات الغالبية السنية. إيران استثمرت في هذا التحالف التكتيكي عبر توظيف القضية الفلسطينية، خصوصًا قضية القدس، لتعزيز حضورها الإقليمي، لكنها في الوقت نفسه لم تقدم دعمًا استراتيجيًا يتجاوز الشعارات، ولم تدخل في مواجهات حقيقية دفاعًا عن الفلسطينيين.
تاسعًا: موقف إيران وراء الكواليس
الموقف الإيراني خلال الحروب الكبرى، كحرب غزة الأخيرة، أظهر ترددًا واضحًا؛ إذ اقتصر الرد الإيراني على مقتل بعض قادتها، بينما بقيت تضحيات الفلسطينيين بلا غطاء إقليمي حقيقي. إيران، في نهاية المطاف، تتحرك وفق مصالحها القومية والإقليمية، وليس من منطلق التزامات أخلاقية أو مبدئية تجاه القضية الفلسطينية.
أما في المشهد السوري، فإن التحالف الإيراني السوري الروسي يقابله مشهد أكثر تعقيدًا يتداخل فيه الدعم الدولي والإقليمي للمعارضة السورية. منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، بدأ الجيش السوري في الانحدار بشكل واضح نتيجة غياب الدعم المستدام وضعف التحديث العسكري. هذا التراجع البنيوي أثّر على كل شيء، بدءًا من التجهيزات العسكرية وانتهاءً بالمعنويات داخل صفوف الجيش. كذلك، أفرزت البنية الطائفية للنظام حالة من الانقسام داخل الجيش بين الموالين للنظام من الطائفة العلوية الذين كانوا يتمتعون بمناصب قيادية نافذة، وبين الأغلبية السنية التي شعرت بالتهميش والتمييز على مختلف المستويات، ما عزز من حالة الغضب الكامن تجاه النظام.
وبينما كانت بعض الدول، مثل الولايات المتحدة، قد أعلنت أن جبهة النصرة هي جماعة إرهابية، فإنها كانت في الوقت نفسه تدعمها بالسلاح والعتاد والذخائر، بالإضافة إلى تقديم رواتب بالدولار. كان الدعم يصل إلى مئات الآلاف من الدولارات. وقد قامت بعض الدول العربية التي أعلنت عن تصنيفها كمنظمة إرهابية، بتقديم الدعم نفسه. لكنني لا أبرئ بعض هذه الدول مما يحدث الآن في سوريا. أما تركيا، فقد كانت تستغل الفرص لصالح مصالحها الخاصة، ولا يهمها لا فلسطين ولا القدس. فقد رأينا كيف أنها سعت لتصفية حساباتها مع الأكراد بكل الوسائل المتاحة، كما تسعى لمنع قيام دولة كردية على أراضيها. وبهذا السياق، دعمت تركيا منطقة كردستان في شمال العراق، وكان لها دور بارز في دعم الحركات الكردية في شمال سوريا."
المعطيات العسكرية في سوريا تعكس حالة من التراجع المستمر للفصائل المسلحة التي كانت قد تمكنت من تحقيق بعض المكاسب في وقت سابق. وبالحديث عن "هيئة تحرير الشام" أو "جبهة النصرة" تحديدًا، يمكن القول إن هذه الجماعات قد واجهت تحديات جوهرية تتعلق بتراجع الإمدادات وغياب التخطيط الاستراتيجي طويل الأمد. إن صراع هذه الجماعات على السيطرة، من جهة، والتآكل الداخلي الذي أصابها نتيجة للتوترات التنظيمية والتمويلية، من جهة أخرى، يبرز أزمة غياب التنسيق الفعّال بين الفصائل المسلحة التي تدعي المقاومة.
لكن، وفي الوقت ذاته، لا يمكن إغفال الأبعاد الإقليمية والدولية لهذا الصراع، ولا سيما التدخلات الإيرانية والروسية. إذ إن إيران، عبر ميليشياتها المنتشرة في الجنوب السوري وفي مناطق أخرى مثل درعا والسويداء، تلعب دورًا مزدوجًا؛ فهي تعمل على تعزيز نفوذها على الأرض من خلال دعم الميليشيات التابعة لها، وفي الوقت نفسه تسعى لإضعاف أي فرصة لعودة الدولة السورية إلى دورها السيادي الكامل في الجنوب. أما روسيا، فهي تدير اللعبة بحذر، تستفيد من دعمها للنظام السوري لكن في الوقت نفسه تحاول توسيع هامش مناورتها الاستراتيجية، خصوصًا في ما يتعلق بمستقبل سوريا بعد الحرب. مع العلم أن ثمة حالة من التباين بين موسكو وطهران، إذ تحاول كل من روسيا وإيران التوصل إلى تفاهمات مع القوى الكبرى لتحقيق مصالحها الخاصة، على حساب الآخرين.
عاشرًا: قدرة الأردن على التحمل... إلى أي مستوى؟
من الواضح أن الأردن لا يمكنه تحمل المزيد من تدفقات اللاجئين السوريين، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها. ولن يسمح بإعطاء النظام السوري المجال لتفريغ سوريا من سكانها مجددًا، وهو ما يعبّر عنه مفهوم "سوريا المفيدة"، الذي لطالما سعى النظام السوري إلى ترسيخه. فـ"سوريا المفيدة" في تفسير النظام لا تعني ببساطة المناطق الاستراتيجية والاقتصادية في البلاد، بل هي رؤية طائفية مذهبية تهدف إلى تقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ يسهل السيطرة عليها، بينما يتم تجاهل المناطق الأخرى التي قد تكون خاضعة لسيطرة المعارضة أو قوى إقليمية ودولية أخرى. إن مفهوم "سوريا المفيدة" يعكس سعيًا لتوطيد سيطرة النظام على المناطق التي تمثل الجزء الأكبر من الثروة الوطنية، متجاهلًا الشعب السوري الذي ما زال يعاني من تبعات هذا الصراع المستمر.
وفي ظل هذا الانقسام المستمر، تُعتبر قضية "السلام الاقتصادي" وتوسيع نطاق النفوذ الإسرائيلي من الأهداف التي تسعى بعض القوى الإقليمية والدولية إلى تحقيقها، لا سيما الولايات المتحدة وإسرائيل. إن ما يجري الآن في الشرق الأوسط ليس مجرد صراع محلي، بل هو جزء من استراتيجية دولية تهدف إلى إعادة تشكيل المنطقة بما يتماشى مع المصالح الاستراتيجية للأطراف الكبرى. هذا التوسع الإسرائيلي في الجولان والمناطق الحدودية مع الأردن يتطلب من الأخير أن يكون على أتم الاستعداد لمواجهة تداعياته على الأمن القومي الأردني.
فيما يتعلق بالوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط، لا تلوح في الأفق أي مؤشرات على انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة. بل على العكس، فإن الوجود الأمريكي في هذه المنطقة بات يشكل عنصرًا أساسيًا في استراتيجية واشنطن بعد أحداث السابع من أكتوبر، حيث ترى أن مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية تتطلب استمرارية هذا الوجود. ومع ذلك، لا يعني هذا أن أمريكا ستبقى بلا مقابل. فقد أكد الرئيس الأمريكي ترامب مرارًا أن الولايات المتحدة لن تقدم أي خدمات مجانية بعد الآن، حتى وإن كان ذلك من خلال نشر قواعد عسكرية حول العالم، وتستهدف واشنطن الآن أن تكون كل قاعدة عسكرية مربحة اقتصاديًا. ذلك أن وجود القوات الأمريكية يجب أن يحقق منافع مباشرة، وإن كانت تلك القواعد العسكرية في مناطق مثل الشرق الأوسط.
أما عن قضية اللجوء السوري إلى الأردن، فقد كانت عملية اللجوء منظمة إلى حد ما حتى عام 2013، لكن بعد هذا العام، تحول الأمر إلى نزوح غير منظم بشكل فردي، وهو ما دفع الأردن إلى فرض قيود صارمة على استقبال اللاجئين. على الرغم من الضغوط الدولية، يظل موقف الأردن ثابتًا في رفض السماح بفتح أبواب البلاد بشكل رسمي أمام اللاجئين السوريين. وقد تجلى هذا الموقف في الرسائل التي نقلها وزير الخارجية الأردني مؤخرًا إلى القيادة السورية، مُحذرًا من العواقب المحتملة في حال استمرار تدفق اللاجئين إلى الأراضي الأردنية.
أما في ما يتعلق بما يحدث في بعض مناطق الشرق الأوسط، فإنَّ ما يشبه "الثقوب السوداء" بات يتشكل في مناطق مثل إدلب، حيث تم تجميع كل من رفضتهم الدول الأخرى من مقاتلين وجماعات مسلحة. هذه المنطقة أصبحت مسرحًا لثقل سكاني غير مسبوق، ما يجعلها أشبه بما يحدث في غزة، حيث تتجمع البشرية في مساحات ضيقة، بلا آفاق سياسية واضحة، ودون أي ترتيبات دولية تساعد على تنظيم المصير. وهذا يطرح تساؤلاً محوريًا: هل ما يحدث في إدلب هو محاكاة لطوفان الأقصى أو تطور له؟ وهل هذه المنطقة بلا مستقبل سياسي؟
الحادي عشر: الأنظمة الزجاجية
وإذا انتقلنا إلى الوضع السوري، نجد أنفسنا أمام معضلة أخرى: هل يمكن أن يحدث انقلاب على النظام السوري؟ الإجابة على هذا السؤال تتطلب النظر في هيكل النظام السوري نفسه. هناك أنظمة تُسمى "الزجاجية"، وهي أنظمة قوية على السطح، ولكنها هشة من الداخل. هذه الأنظمة قد تنهار فجأة، دون أي تحذير، إذا لاقت صدمات حاسمة. فهل النظام السوري من هذا النوع؟ أم أن عدم انهياره يرجع إلى عدم وجود بديل حقيقي وقوي يستطيع أن يحل محله؟
أما عن مصالح إسرائيل في ما يحدث الآن في المنطقة، فلا شك أن هناك أجندات واضحة تسعى إسرائيل لتنفيذها. فهل قضية التهجير ستكون جزءًا من مخطط أوسع؟ وهل من الممكن أن يتم تهجير السكان من جنوب سوريا بدلًا من الأردن؟ الواقع أن التشابه بين إدلب وغزة ليس جديدًا، فقد سبق أن وصفها العديد من الشخصيات الدولية مثل أنطونيو غوتيريش ورجب طيب أردوغان بأنها مناطق محاصرة ومضغوطة. فإدلب تشبه غزة في حصارها، حيث تتركز فيها مجموعات مسلحة وتحتضن أجندات عسكرية غامضة.
في الختام، لا بد من التأكيد على أن المشهد في سوريا وما يحيط به من قضايا لا يمكن أن يُفهم في إطار الحلول السطحية أو الآنية. بل هو قضية إقليمية ودولية معقدة، تحتاج إلى تفكير استراتيجي عميق يتجاوز النظرة التقليدية. إن الجغرافيا السياسية في المنطقة تتداخل بشكل يصعب فصلها عن التوترات الإيديولوجية والمصالح الاقتصادية التي تحدد مسار هذه الأزمة.
صادر عن مؤسسة مسارات الأردنية
3/12/2024